أما بعد، فإن (نهج البلاغة) اسم وضعه الشريف الرضي على كتاب جمع فيه، ـ كما هو مذكور ـ المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه. وقد اشتمل على عدد كبير من الخطب والمواعظ والعهود والرسائل والحكم والوصايا والآداب، توزعت على 238 خطبة و79 بين كتاب ووصية وعهد، و488 من الكلمات القصار، واحتوت على عوالم وآفاق متعددة منها: عالم الزهد والتقوى، عالم العرفان والعبادة، عالم الحكمة والفلسفة، عالم النصح والموعظة، عالم الملاحم والمغيبات، عالم السياسة والمسؤوليات الاجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة وغير ذلك.
ولقد انفرد هذا المصنف بسمات قلما نجد لها مثيلاً في أي كتاب إسلامي آخر سوى القرآن والسنة النبوية، إذ لا نكاد نرى كتاباً تميز بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية والواحدة والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة). وهو اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده، يحافظ على نفس الحلاوة والطلاوة، ونفس القدرة في تحريك العواطف والأحاسيس، تلك التي كانت له في عهده، رغم كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق والثقافات لأن كلماته لا تحدّ بزمان أو مكان، بل هي عالمية الوجهة، إنسانية الهدف، من حيث أنها تتجه إلى كل إنسان في كل زمان ومكان.
ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، وأعجب به كل من وصل إليه، وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى والمعنى المشرف، وما احتواه من جوامع الكلم في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك يجمع بين البلاغة والشمول ويعد في الذروة العليا من النثر العربي الرفيع.
لقد شغل الإنسان بكل أبعاده، مختلف خطب الإمام علي (عليه السلام) وكلماته بهدف تحريره من ربقة الجهل وإنارة عقله بالعلوم والمعارف، تمهيداً لإيقاظه من سباته وبعثه على التأمل في الكون وما يتخلله من أنظمة ونواميس وما يحكمه من إرادة خفية دقيقة التنظيم، ليخلص من ذلك كله إلى الإيمان بالله خالق الكون وواهب الحياة.
وليس بوسع هذا الإنسان المحدود حياة وقدرة، أن يدرك هذه الحقيقة المطلقة، ما لم يرتفع فوق الصغائر والشهوات، ويتحرر من قيود المادة وأغلالها ويحترز من أغوائها وأهوائها ويفطم طبيعته عن ألبانها، لذلك فقد ركزت خطب الإمام علي (عليه السلام) على التقوى تلك التي تهب النفس القوة والنشاط، وتصونها عن الانحراف والشطط، وتدفع بها إلى ملكوت الله حيث السعادة الأبدية. ولا يعني ذلك، ترك المجتمع واعتزاله، إذ لا رهبنة في الإسلام، ولا يبدو من كلماته (عليه السلام) أنها تدعو إلى مثل ذلك، بل هي توحي إلى الإنسان بأن يتقي الله في دنياه، ويعمل لدنياه كما لآخرته، ويعيش حياته بكل بساطة وقناعة، في ظل علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية والمطالب الحياتية لكافة الناس، هذه المشاركة في الحياة تفرض على الإنسان أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه في مستوى واحد من الحماسة والاهتمام.
هذه المعاني الإنسانية الخالدة التي تضمنها نهج الإمام علي (عليه السلام) جعلته موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر في كل عصر وجيل وسوف يبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف فهي منطلقات جديدة لبناء هذا الإنسان حتى يعود إلى الصورة التي أراد لها الله أن تكون.
ومع هذه الأهمية التي حظي بها كتاب (النهج) فقد امتدت إليه سهام الشك منذ أن صدر عن جامعه وحتى يومنا هذا، واختلفت فيه الآراء، وفي كونه للإمام علي (عليه السلام) أم للشريف الرضي، وما زالت المواقف على حالها دون البت في ذلك، رغم أن
لا تحتاج هذه الميزة في نهج البلاغة إلى التوضيح لمن كان عارفاً بفنون الكلام وجمال الكلمة، فإن الجمال يدرك ويوصف. إن لنهج البلاغة اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده نفس الحلاوة واللطف الذي كان فيه للناس على عهده، ولسنا نحن الآن في مقام إثبات هذا الكلام، ولكنا - بمناسبة البحث - نورد هنا كلاماً في مدى نفوذ كلامه (عليه السلام) في القلوب، وتأثيره في تحريك العواطف والأحاسيس، والمستمر من لدن عهده إلى اليوم، مع كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق. ولنبدأ بعهده.
لقد كان أصحابه (عليه السلام) - خصوصاً من كان منهم عارفاً بفنون الكلام - مغرمين بكلامه، منهم (ابن عباس) الذي كان - كما ذكر الجاحظ في (البيان والتبيين) - من الخطباء الأقوياء على الكلام (1) فإنه لم يكن يكتم عن غيره شوقه إلى استماع كلامه والتذاذه بكلماته (عليه السلام)، حتى أنه حينما أنشأ الإمام خطبته المعروفة بـ(الشقشقية) كان حاضراً فقام إلى الإمام (عليه السلام) رجل من أهل السواد - أي العراق - وناوله كتاباً، فقطع بذلك كلام الإمام، فقال ابن عباس: (يا أمير المؤمنين! لو اطّردت خطبتك من حيث أفضيت) فقال (عليه السلام): (هيهات! إنها شقشقة هدرت، ثم قرّت) ولم يطرد في كلامه ذاك، فكان ابن عباس يقول: (والله ما ندمت على شيء كما ندمت على قطعه هذا الكلام).
وكان يقول في كتاب بعث به إليه الإمام (عليه السلام): (ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كانتفاعي بهذا الكلام)(2).
وكان معاوية بن أبي سفيان - وهو ألد أعدائه - معترفاً بفصاحة وجمال أسلوبه:
فقد أدبر محقن بن أبي محقن عن الإمام (عليه السلام) وأقبل على معاوية وقال له - وهو يريد أن يفرح قلبه الفائر بالحقد على الإمام (عليه السلام) -: جئتك من عند أعيا الناس!
وكان هذا التملق من القبح بمكان لم يقبله حتى معاوية، فقال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس؟! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره!
الكافي أيضا ( سمعنا أبا عبد الله يقول لا غنى أخصب من العقل ) [9] ، وفيه أيضا ( عن ابن السكيت أنه قال للرضا : فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال الرضا: العقل تعرف به الصادق على الله فتصدقه والكاذب على الله فتكذبه ، فقال ابن السكيت هذا هو والله الجواب ) [10] .
إذن فعلينا أن نفكر ، وندع عقولنا تعمل فإن من عيوبنا قلة البحث والقراءة والذي لا يقرأ يعير عقله غيره فلا تجده يفكر وللأسف الشديد فإن تلقينا العلم والدين بالوراثة فهي المصدر. أيها القارئ الكريم : حسبك الروايات السابقة لكي تفكر وتهتم بعمل العقل في كل ما يعرض عليك.
مكانة نهج البلاغة:
قال عنه أحد أكبر علماء الشيعة المعاصرين ، الهادي كاشف الغطاء في كتابه مستدرك نهج البلاغة : ( بأن كتاب نهج البلاغة أو ما اختاره العلامة ابوالحسن محمد الرضا . من كلام مولانا أمير المؤمنين .....من أعظم الكتب الإسلامية شأنا - إلى أن قال - نور لمن استضاء به ، ونجاة لمن تمسك به ، وبرهان لمن اعتمده ، ولب لمن تدبره [11]. وقال أيضا ( إن اعتقادنا في كتاب نهج البلاغة أن جميع مافيه من الخطب والكتب والوصايا والحكم والآداب حاله كحال ما يروى عن النبى ص وعن أهل بيته في جوامع الأخبار الصحيحة والكتب المعتبرة ) [12].
وقال عن نهج البلاغة شرح محمد عبده ( أحد شيوخ الأزهر بمصر ) : ومن أفاضل شراحه العلامة الشيخ محمد عبده فقد شرحه بكلمات وجيزة 00)[13]
وقال بعض علماء أهل السنة عن نهج البلاغة (... ألفه لهم الشريف الرضي وأعانه عليه أخوه المرتضى ، وطريقتهما في تأليفه أن يعمدا إلى الخطبة القصيرة المأثورة عن أمير المؤمنين فيزيدان عليها . . . . ، وإن الصحيح من كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة قد يبلغ عشره أو نصف عشره ، والباقي من كلام الرضي والمرتضى )[14] ؟ وقيل أيضا أن الذي ألفه هو الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ فبالرغم من هذه الشقة البعيدة من السنين بينهما وبين علي رضي الله عنه ، إلا أنهما يرويان عنه مباشرة بدون إسناد .
وقد انتهج مثل ذلك صاحب الكتاب المسمى ( مستدرك نهج البلاغه )؟! فكيف لهذا المعاصر[15] أيضا أن يروي عن علي رضي الله عنه الذي عاش في القرن الأول الهجري وهو قد عاش في القرن الرابع عشر بدون ذكر المصادر أو الإسناد ؟.وما يدرينا لعله بعد سـنين أو قرون من الآن يأتـي منهم من يروي عن على رضي الله عنه وبالطريقة نفسـها !!.
فبالرغم من مكانة هذا الكتاب عند الشيعة والمكانة التي يعطونها لعلى رضي الله عنه ومن ذلك أنه معصوم عن الكذب والخطأ والنسيان . وأنه إمام طاعته من طاعة الله ، إلا أنهم يخالفون ما في النهج من كلام نسبوه لعلي رضي الله عنه ولا يطيعونه ، فلماذا الشيعة يخالفون كتاب الله وسنة رسوله وقول إمامهم !! . وأمثلة هذه الدلائل على مخالفتهم ما في نهج البلاغة ما يلي :
أولا : أين النص الإلهي بالإمامة الذي يزعمونه ؟ وكيف لعلي رضي الله عنه أن يرفضها لو كان هناك نص ؟! :
1- ففى نهج البلاغة خطبة لعلي رضي الله عنه حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان رضي الله عنهما قال فيها : ( دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ... إلى أن قال : وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا )[16] فلله العجب !
إذ لو كان أمر الإمامة أو الخلافة كما يصورها الشيعة بأنها نص إلهى في علي رضي الله عنه
أجاب يهوه بامتعاظ : أتريد أيها الإله الأعظم, أن أقف موقف المتهم, وأن استمع إلى اتهامات هؤلاء الحمقى المجانين.
نصح برهمنيهوه قائلاً: إن في كلامك ما يؤكد انفلاتك من عقالك, وإثبات لما تدعيه خصومك, وأرى أنك ملزم الرد الآن على الاتهامات, وكلي ثقة بقدرتك وبلاغتك في الرد والإقناع.
بذل يهوه جهده الجهيد للعودة إلى هدوءه وانضباطه, لكن ديميترا عاجلته بسؤال استفزازي, لتأجيج صخبه وانفعاله قائلة: أي يهوه… يا سيد القوّة والسلطان والأخلاق الحميدة. يا سيد المبادئ والذهب والمال. إن العهود والأسفار تقول أنك قد شجعت أنبيائك المعصومين, مثل إبراهيم وإسحاق, ليسوقوا زوجاتهم إلى فراش الملوك والسلاطين, بهدف جمع المال, لبناء دولة شعب الله المختار. بالله عليك قل لي كيف يقيم شعب الله المختار دولتهم وحضارتهم بأموال الدعارة ؟. وأية أخلاق و قيم لحضارة يقودها أنبياء من العهرة والقوادين؟.
قهقه الآلهة ساخرين لاستفزاز يهوه, لكنه بذل جهده الجهيد كي يحافظ على هدوء أعصابه ثم قال: قبل أن تقذفوا وتجرحوا الآخرين, عليكم بادئ ذي بدء, أن تضعوا نصب أعينكم المبادئ الكونية في البناء والهدم والكون والفساد.
إن المبادئ العليا أيها الآلهة الأجلاء عديمة الجدوى في زمن السقوط والاندثار. الحكيم الحق هو ذاك الذي يستثمر المبادئ العليا في زمن الصعود والارتقاء, ثم يستثمر أي مبدأ يتاح له في زمن السقوط والاندثار. فما الفرق إذاً بين الأسود والأبيض, والمال الصالح والطالح في آتون النار والدمار؟.
لماذا تحاكموني أنا في تهمة الدعارة؟. ألا تجدون اليوم عشرات الدول الصناعية العلمية المتطورة, تقيم اقتصادها على أموال الدعارة؟. لماذا تحاكموني الآن ولا تحاكموا زيوس ولا بوذا؟.
رد زيوس: لقد تحول كل ما في هذا العالم بسبب ذهبك وأخلاقك إلى مخارة دعارة وفسق, ولا أرى من يستحق المحاكمة سوى ذهبك وسلطانك وعلمك اللعين.
أجاب يهوه بامتعاظ: ماذا تفيد الحكمة أمام حمقى وسذج ومخبولين؟.
تدخل برهمن قائلاً: أنصحكم التوقف عن هذا التقريع والتجريح, كي لا أجد نفسي مضطراً ترككم لصدام كوني مدمّر.
قال يهوه : ماذا أقول يا سيدي, لمن يتهم علمي باللعين, ألا يعلمون بأن خيرة علماء وحكماء العصر من أمثال نيوتن و فرويدوماركسوانشتين وآلاف غيرهم قد جاءوا من مدارسي!.
سأل زيوس ساخراً: من أية مدارس؟. من مدرسة التلمود؟!. أقتل من غير اليهود؟. أزنِ بغير اليهودية؟.
قال يهوه: السذج والحمقى, تتوقف عقولهم عند هذه العبارات المموهة. لكن العقول المستبصرة تدرك أن التلمود أداة استثمار ممتازة للفكر البشري في الجدلية!. وهذا هو سر تفوق وتميّز أمتي عن باقي الأمم, وسر ولادتي لآلاف العلماء والحكماء اليهود, الذين غيّروا وجه الحضارة المعاصرة. وهذه الحقيقة لا ينكرها إلا الحمقى أو المفترين.
تدخل بوذا قائلاً: لقد طلبت قبل قليل محاكمتي مع زيوس بتهمة لجوء بعض من شعوبنا لممارسة الدعارة بهدف جمع المال. وأنا يا سيدي لا أريد اتهام الفقر وسياسة التجويع العالمية, بتشجيع الإنسان على الدعارة. لكنك يا سيدي أنت الآن سيد المال والذهب والاقتصاد والسياسة الدولية والتكنولوجيا. ونحن يا سيدي قد عزفنا منذ القدم عن الملك والسلطان, كي نعفي أنفسنا من مسؤولية الفساد والدمار الجاري. فهل تستطيع الرد, عما قدمه ذهبك وسياستك لهذا العالم الفاسد المتردي؟.
أجاب يهوه: أعتذر عما صدر مني بحقك. وأنا أحترمك أسوة بباقي أسياد التجارب الروحية. لكن يا سيدي إن جميع التجارب الروحية قد حكم عليها بالفشل الذريع, بسبب عزوفها عن المال والسلطة.
أجاب بوذا: إن المال والسلطة والمرأة هم أعظم مفاسد الكون !.
قال يهوه: هذا ما نصح به أسياد التجارب الروحية, لكن ما هي نتائجها ؟.جميع أتباع المدارس الروحية يقبعون الآن سجناء الفقر والجوع والتخلف والحقد والعنصرية والهمجية!. لماذا؟.لأنهم لم ينتبهوا إلى أهمية دور السياسة في المجتمع الروحي.
قال زيوس: هراء...هذا هراء. انظر إلى تاريخ المهاتماغانديوالدالايلاما, فقد أعطيا أعظم مثال قدسي في السياسة الحياتية والروحانية.
قال يهوه: انظر إلى الدالايلاما- التجلي الرابع عشر لبوذا- كيف يقبع الآن سجين منفاه وعزلته واحباطاته!. انظر إلى مقتل المهاتماغاندي, وفشله الذريع في إحداث أي تغيير حقيقي في تاريخ الهند, فهو لم يستطع إيقاف العدائية والكراهية بين الهندوس والمسلمين من جهة, ولم يستطع إعفاء الهند من التردي في مقبرة الجوع والتخلف من جهة أخرى.
ثم أضاف يهوه قائلاً: إن المهاتماغاندي وإن أعطى مثالاً فذاً في فلسفة السياسة المروحنة, لكنه فشل فشلاً ذريعاً في الحقل الاقتصادي, عندما طلب من تلامذته التبرع بالمال وتبديده, بدل استثماره الاقتصادي, كون الخلاص مرهوناً بالإله وليس بالمال.
ثم أكد يهوه قائلا: المال والاقتصاد والعلم والسياسة, هم أهم ركائز القوّة الروحية, وهذا هو سر قوتي وعظمة تجربتي.
قالت ديميترا: لكن رسول الإسلام قد سبقك الإفصاح عن هذه الحكمة, وقد سبقك في التجربة أيضاً, لكن المسلمين من بعده مارسوا أردأ أنواع السقوط والانحلال والتفسخ, فما قيمة هذه الحكمة والتجربة؟.
قال يهوه: لم ينجحوا, لأنهم لم يعدّوا ويهيئوا الإنسان لهذه القفزة الإنسانية العالمية الكونية.
قالت ديميترا: وهل ذهبك وسلطانك وحكمتك وسياستك واقتصادك قادرين اليوم على تحقيق تلك القفزة؟.
أجاب يهوه: إن هذه القفزة يتحكم بها النظام الكارمي للعالم, وأنا لا أستطيع تخطي تلك الحسابات, فكما أن مملكة شمبهالا تعيش في الركن الآخر الخفي من العالم دون أن تشاركه كارماه, أو دون التدخل بالحساب الكارمي, فأنا أيضاً أدرك أن التدخل الكارمي لرفع سوية الإنسان سيجبرني دفع مالا طاقة لي به.
قالت ديميترا: لكن ذهبك وقوتك يقودان العالم للتردي في أسوء أنواع الكارما. ألا تتحمل وزر أفعالك؟.
قال يهوه: إن العالم قد أذن, نحر نفسه في رحلة الموت والتحلل, العقل الحكيم يدرك طبيعة المرحلة الكونية, فيتخذ ما يناسبه, وفق معطيات المرحلة. من الحماقة أن يبحث العاقل عن مفاهيم الصعود والارتقاء في مرحلة الموت والتحلل والفناء.
إن العالم ينحر نفسه عبر صراع وصدام الحضارات, الإنسان في هذه المرحلة مؤهل للصراع والدمار أكثر مما هو مؤهل للتواصل والتكامل. وطالما أن هذه المرحلة تفضي إلى الصدام والدمار والفناء, فلماذا ألّزم نفسي فلسفة الطيبة والمحبة والارتقاء, وأسلك مسلك الحملان المنتحرة بين أنياب الذئاب, أو أن أعيش عيشة السذّج والمخبولين.
أيها الآلهة الأجلاء, إن أثرياء الحروب, قد خلقتهم ثروات صرعى الحروب من أولئك الرافضين الدخول في آتون الموت وسفك الدماء. إن شعبي قد رفض الموت, لكن القدر قد كتب عليه أن يواجه قوى طاغية, أرادت أن تنحر نفسها به. لذا فهو مضطر لقتلهم من جهة, والاستيلاء على ممتلكاتهم من جهة أخرى, وهذه هي فلسفة صراع شعبي.
واستطرد يهوه قائلاً: إن الشعوب العربية والإسلامية, قد قررت موتي ونهايتي, بذات الوقت أنا قد أنهيت الحضارة الأوروبية واليابانية وأعرق حضارات العالم, ممن يمتلكون العلم والاقتصاد والذهب والقوّة النووية. واليوم يحق لي أن أسأل: ماذا تملك الحضارة العربية والإسلامية من مقومات, باستثناء دكتاتورياتها وأحقادها الطائفية وكراهياتها ونزعاتها المفرطة للعنف, كي تحاول سحقي؟.
قالت ديميترا: لقد جاء في أسفارك المقدسة أن الحية رمز الشر والشيطان, وأن عصا موسى قد تحولت إلى حية, افترست أفاعي الآخرين. وهذا يعني أنك قد أوحيت إلى شعبك, أن يكونوا أكثر شراً من شرور العالم. لهذا أتهمك بأنك أنت مصدر هذا الشر والتخريب العالمي.
أجاب يهوه: إن تصفية الحسابات الكارمية للمجتمع البشري تعمل عليه قوى كارميّة عليا, يصعب على عقول الآلهة والبشر الإحاطة به, وهذا ما يبرر وجود حضارات وطبائع بشرية سافلة ومنحطة, تسيء للطبيعة والكون, من الواجب تحقيق التوازن الكوني عبر سحقهم وإبادتهم, والتاريخ يؤكد على اندحار حضارات لا حصر لها.
سخرت ديميترا وقالت : أراك تتشدق بعبارات فلسفة الوضاعة, فما أنت سوى قاتل خسيس يغذي جوف إله الموت ياما الغاشم المشؤم.
مأساة "ياما"
إله الموت
استمع إله الموت ياما إلى تقريع ديميترا المجحف, فتجلى كالبرق الخاطف, يلفه الألم والحزن عما كالته إليه آلهة الطبيعة من تجريح وتقريع.
قال ياما: كم يحزنني أن تصورني عقول الآلهة والبشر بصورة إله البَينْ المرعب الغاشم الصخري الفؤاد, الذي يخطف الأرواح, ويفرق الحبيب عن حبيبه, والأم عن ولدها, والشقيق عن شقيقه, فلا يذكروني إلا في لحظات حقدهم وسخطهم, لتسليطي على بعضهم البعض, و كأن الموت شبح شيطاني, يسلّط على أرواح البشر لسحقهم وتعذيبهم.
ثم أضاف إله الموت قائلاً: أيها الآلهة الأجلاء, إن الكون محكوم عليه بالموت والولادة, لأنه مخلوق. إن الجميع يبحث عن الأزلية والديمومة بالله, لكن الله ليس الكون, إنه روح الحق خلف الكون. الجهل هو أن يبحث الإنسان عن الخالق في المخلوق. إن الله يسوق الإنسان في عالم الموت والولادة عبر الكون, ليستخلصه لنفسه, وبالتالي عادة ما يكون الموت منجاة للنفس, وإنقاذاً لها من الغوص والتردي في خطأ التجربة, وبالتالي يهدف الموت إلى نقل النفس إلى تجارب أرقى وأسمى. أولئك الغارقون في لعبة الحواس يرفضون الموت, لأن عقولهم عاجزة عن تصور المعرفة خلف حدود الحواس. فينعتوني بالشؤم, ويكيلون لي الشتائم, ويطردوني من أذهانهم. وكأن الموت صفة عارضة تأتي لدمار وسحق سعادة واستقرار الإنسان.
أيها الآلهة الأجلاء إن قتل الجسد لحظات من الألم وتمضي مع تحرر الروح. لكن اشد أنواع القتل إيلاماً إنما هو استعباد الروح. إن الديكتاتوريين وقوى الاستغلال الغاشمة, إنما هم أسوء أنواع القتلة على الإطلاق, فإذا ماتوا عادوا إلى الحياة كفقراء, لتستغلهم وتسلخ جلودهم قوى الديكتاتورية التي أسسوها هم أنفسهم في حياتهم السابقة. وهكذا تمضي الحياة قدماً, بين قتلة وقاتلي أنفسهم, ليعم الظلم والجور والحقد والكراهية.
إن الموت يطال كل قاتل, لكنه لا يستطيع أن يطال الحكيم الذي يعبر الحياة, واضعاً نصب عينيه, رفع سوية الوعي في الحياة, إنقاذا لها من التردي في هاوية الفوضى والقتل والدمار, لأن مصيره يصبح بين يديه, ويستطيع مغادرة الحياة ساعة يشاء.
أيها السادة أنا آلة كونية, تعمل على تجسيد وتحقيق رغباتكم. لكن رغباتكم مثل حياتكم تتمثل على ستار الزمان. وكل ما يتمثل على ستار الزمن لابد أن تكون له بداية ونهاية, فلماذا تفرحون بالبداية وتنكرون حق النهاية. صمت ياما ثم أضاف: أنا أجيبكم الآن, إنكم تنكرون النهاية لجهلكم نتائج رغباتكم, ولتعلقكم باللذة, وخوفكم وجزعكم من الألم, علماً بأن الألم أكثر فائدة للنفس من اللذة. إن حالة العمى التي تصيب النفس نتيجة التصاقها بالجسد, هي سبب كل هذه التخبطات الكونية.
وقال ياما : لقد وعظ الإله هرمس قائلاَ: ينبغي لك يا نفس قبل الانفصال عن عالم الطبيعة, من تمني الموت, وهو الموت الطبيعي. وقال أيضاً لابد لك يا نفس قبل مغادرة عالم الطبيعة, من تمثل طريقك محلاً بعد محل حتى نهاية المستقر. وكم يؤسفني أيها الآلهة, جهل الإنسان بتمثل الوجود خارج حدود الجسد. فإذا أصاب الإنسان مرض قاتل, احتار أهله وذووه, بإخفاء خبر الموت عنه, وراحوا يحتالون عليه بآمال كاذبة, متجاهلين أهمية وضرورة تحضير الذهن والروح لتمثل طريق المغادرة بسلام, للعوالم الساميّة, التي تقع خارج حدود الحواس. إن جهل الإنسان بالقوانين الكارميّة يخلق له كل هذا العمى.
وأضاف ياما قائلاً: إن التجليات الإلهية, محكوم عليها الغوص في الحسابات الكارميّة, لذا نجد تاريخ الآلهة ملطخ بالدماء مع السبي والتفظيع والتنكيل. وأنا لا أجد لنفسي بد, إلا بتحقيق العدالة, فأسوق الخلاص بالموت للحكماء, وأحقق خيارات البشر القاتلة المقتولة. إن الدور الذي يلعبه يهوه في جر العالم إلى مجازر كارمية, مجبر عليه. لأن خياراته الأولى تفرض عليه أن يتمم لعبة الموت والانهيار. وعلى الفرض أن يهوه لم يقم بهذا الدور, فستدفع لعبة التكوين إله آخر.
وأضاف إله الموت قائلاً: أيها الآلهة الأجلاء, إن الإنسان الذي يدفع رصيداً كارمياً عالياً من الآلام في صراع الحضارات, قد كتبها على نفسه نتيجة اضطهاده لأبنائه في لعبة السياسة والاقتصاد وزعامة الكهنوت. إن الأمم التي تجتاح ذاتها بالظلم والاستبداد, عليها أن تعلم أن صراع الحضارات سيسحقها بين النعال. من العبث أن تطالب تلك الحضارات العالم بأن يكون عادل معها, وبذات الوقت تمارس أبشع أنواع الظلم والاستبداد بين أفرادها.
سألت ديميترا الآلهة قائلة: إن القانون السببي يحكم العالم والكون, وكثيراً ما تساءلت عن تاريخ نشأة الآلهة لمعرفة متى وكيف ولد يهوه, فلم أتمكن المعرفة. فهل أجد منكم من يجيبني عن سؤالي ويثلج قلبي؟.
ولادة يهوه
انبرى بوذا للإجابة قائلاً :هنالك نظريتان عن ولادة يهوه, الأولى غنوصيّة والثانية ثيوصوفيّة. تقول النظرية الغنوصيّة أن يهوه قد ولد من محبة منيرفا, "آلهة الحكمة", لسيدها الكائن الأعظم, فجاء من ثمرة هذا الحب يهوه كإله للشر, ليخلق العالم, وليعيث فيه فساداً. لهذا توجب على الكائن الأعظم التجلّي في العالم, لكبح جماح يهوه, ولتحقيق الأمن والسلام. أمّا النظرية الثيوصوفيّة فتقول: أنه بعد دمار السلالة البشرية الرابعة في عصر أطلنطس, عاد الحكماء المتألهين إلى الأرض, وأعادوا بناء جذور هذه السلالة البشرية الخامسة الحالية في أرض مصر, وشرعوا ببناء صروح وأوابد تاريخية ضخمة, ليؤسسوا عصر تاريخي جديد, منشئين نظام, "إله- بشري" متكامل, متواصل مع نظام الوعي الكوني من جهة, و من جهة أخرى متواصل مع الحياة البشرية, الساعية لتطوير اختباراتها في عالم الفردية و التكامل.
لكن تجربة التفرّد المفرطة, قد أخرجت الإنسان عن سكة التوحيد والتكامل و النظام. فهُزم نظام التوحيد بدور اخناتون, وانتصر أتباع التفرد المفرط من عبدة نظام آمون.
أقر أتباع اخناتون بالهزيمة, مدركين أن سببها ميل و جنوح النفس البشرية إلى تجارب الأنانية المفرطة, و أدركوا أن الحياة ستعاود انهيارها الحتمي من جديد. فلجأوا إلى أعلى جبال العالم -هيمالايا- و أنشأوا مجتمع شامباهالا الحكيم, ليستعدوا إلى دور تكويني جديد. لكن قسم من أتباع اخناتون بقيادة موسى, رفضوا حياة المنفى في جبال هيمالايا, و قرروا متابعة تطوير نظام التوحيد الاخناتوني في مواجهة مدرسة آمون الجائرة, فخلقوا من صلواتهم و رغباتهم قوّة الإله يهوه. لكن أتباع موسى لم يكونوا قد قضوا وقتهم الكافي في مدارس التنشأة الروحية و الإعداد المسلكي, الذي جهد سلالة الحكماء المتألهين في إعدادها, فقتلوا موسى, و طوروا خلق يهوه, بما يتناسب مع رغباتهم في عبادة القوّة والسلطة والتميّز التي يؤمنها الذهب.
وقاد المسكين يهوه شعبه المتخبط, ليوقعوه في أخطاء وتخبطات مفجعة, وليجعلوا منه عفريت رغباتهم, فحقد عليهم ودفعهم لقتل بعضهم البعض.
لقد أصابت التخبطات المسلكية كيان المجتمع اليهوي, فصرفوا النظر عن الأخلاق, وراحوا يهتمون بالسحر و الذبائح والمحارق, متخذين أسوأ أنواع المسالك من زنى, ودعارة, وقطع الطرق, فأوقعوا أنفسهم في فخ كارمي لئيم, ليجتاحهم البابليون ويسبونهم ويسوقوهم عبيد.
ومع الزمن, عاد الحلم, واستيقظ بهم طموح مملكة شعب الله المختار, وراحوا يكتبون أسفارهم المقدسة, بكل تفاصيلها, وفاتهم أن تلك الوقائع, تفضح فضائع تخبطات تاريخهم الدموي, الذي لم يخفوا فيه, فسق نبيهم لوط بابنتيه, وغدر داوود وسليمان بأوريا الحثي وبنائي الفنيق , وقوادة إبراهيم وإسحاق على زوجاتهم لفرعون وملك صادق بهدف جمع المال.
سألت ديميترا : ما هو التوراة إذاً؟.
أجاب بوذا : سفرٌ لحالم مهزوم, مصاب بهوس التفوق العنصري. أججت صناعته, ذروة الصراعات الكارميّة. إنه تدوين فجّ لمنقولات تاريخية غير موثّقة, دوّنت على أساس أنها تاريخ قدسي, فوقع في فخ التخريف من جهة, وفي فخ العنصرية من جهة أخرى, عندما مسخ تاريخ الآلهة لصالحه, معتبراً أن الآلهة وجدت لأجله دون سائر البشر.
كان يهوه يصغي إلى هذا التحليل الجائر, متسائلاً: هل وصلت الكراهية و العدائية إلى قلب إله المحبة والطيبة؟ أم أن هنالك غولاً مفترساً, قد ولد في كيانه, دون أرادته, فرضت ولادته الصراعات التي لا ترحم؟.
قال رع إله الشمس المصري : إن سقوط يهوه لم يكن قد أخذ هذا الضجيج, لولا أن قبض أتباعه على سبل العيش والحياة, ولا نريد أن نضخم سقوطه, بل علينا أن نلوم آلهة العقل والحكمة" منيرفا" لانصرافها إلى الحروب, وتقاعسها في صناعة الأخلاق والفكر عند الإنسان.
مأساة منيرفا
تقدمت منيرفا آلهة الحكمة قائلة: إن أصعب الصناعات على الإطلاق هي صناعة الفكر, لأنها تتدخل في النسيج الوجداني البشري.
إن تطوير الفكر لا يتم إلا عبر صدمة وجدانية عميقة ومؤلمة, تماماً كما تفعل عملية فطام الرضيع .
إن الرضيع يرتبط بالعالم عبر الثدي. إنه يمثل له أمنه الوجودي والعاطفي والغذائي. عندما تبدأ عملية فطام الرضيع, فإن صدمة عميقة تهز وجدانه, لأنه اعتاد على حنان أمه, عبر ملامسته لثديها, واعتاد على غذاء جسدي ووجداني من الصعب أن يؤمن مثله في الوجود. إن الصراخ والبكاء الذي يفتعله الطفل, إنما اعتراض على بدء استقلاليته في الحياة, لكنه في النهاية يستسلم, عندما يجد البديل الغذائي وقبلات أمه.
وهكذا يولد فكر الإنسان رضيعاً, متعلقاً بثدي موروثاته الفطرية, والتي اكتسبها عبر إعجابه بأمه, وبيته, وحيه, وبلده, وأمته.
إن قوة الانتماء إلى الجذور تدفع الإنسان للظن, أن كل ما يعرفه, وما تعلمه, هو الكمال بحد ذاته. وكل تغيير, إنما هو اعتداء على هذا الكمال. المجتمعات الطائفية والعنصرية المتخلفة, تدفع الإنسان لتأليه عاداته, وعصبياته الدينية, والقومية, والعرقية, وتصنع له رقيباً وحسيباً صارماً, هو العرف الاجتماعي والتقاليد الموروثة. وهكذا ينغلق الإنسان عليها, كما ينغلق الرضيع على ثدي أمه, ظاناً أن ما يعرفه هو الكمال بحد ذاته.
إن صناعة الفكر أشبه بعملية الفطام بالنسبة للرضيع. فالإنسان بالفطرة يقاوم التبديل, كما يقاوم الرضيع أي بديل عن ثدي أمه, لكن القوّة لابد أن تنتصر, وهذه هي كارثة تطوير الفكر البشري.
إن الإنسان بحاجة للإنسان وجدانياً كحاجته للطعام والشراب. وعبر القيم والأعراف, ينشأ النسيج الاجتماعي ليرفع الناس, فوق بعضهم البعض, درجات, بمقتضى القيمة التي يطرحها المجتمع, لتكون باب التميّز والرقي في السلم الاجتماعي.
فالفروسية كانت القيمة المميزة في المجتمعات القديمة. والحكمة والقداسة, كانت القيمة المميّزة في مجتمعات اليونان القديمة والهند. لكن البشرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمادة, التي هي عماد التفرّد والتميّز في المجتمع البشري. وهكذا يستطيع الفرد أن يقود مجتمعه البشري بسهولة ويسر, عبر سلاح المادة.
إن البشرية اليوم قد أدركت أبعاد هذا السلاح, لهذا قامت بزيادة حاجات الفرد للاستهلاك من جهة, وقامت بالسيطرة عليه, عبر التحكم بموارده من جهة أخرى. وهكذا سقط الإنسان بسهولة ويسر في فخ الاستهلاك المادي, الذي استهلك قيمه, وذوقه, وفنه. وبالتالي اتجهت صناعة الفكر نحو الذرائعية, وحب الملكية, وشهوة التسلط والاستزلام.
لقد قال ماركس: إن رأس المال جبان!! لكن الحياة الحالية قد أثبتت أن رأس المال, منحط وسافل, إذا تملكته الذرائعية المتسلطة, التي تستبيح كل شيء.
إن علم صناعة الفكر في الحقل الفلسفي والروحي, البعيد جداً عن قوّة التحكم المادي, ما هو إلا علم ناقص, يستهلك عقل الإنسان كما تستهلك المادة روحه. لكن كان على البشرية أن تمضي في طريقين متعاكسين, طريق الروحانية البعيد عن قوّة التحكم المادي, بهدف سبر أغوار العقل والروح, بغية إدراك قيمة المادة في تجسيد وحدة وعظمة العقل والروح في التجلي عبر الفرد. وطريق المادة الذرائعية الغولة المستبيحة لكل شيء, حتى ذاتها, لتعرف مدى حاجتها إلى القيم الروحية والفلسفية الإنسانية.
وأضافت منيرفا قائلة : وكان عليّ أن أترك البشرية لمعرفة حاجتها الماسة, لروحنة المادة, عبر هذا الانهيار, لتتعلم قيمته في أجيالها القادمة.
قالت ديميترا : لهذا وجد اله الحرب الفرصة له سانحة ليستبيح دماء العالم.
محاكمة اريس
إله الحرب
ثم وجهت ديميترا حديثها للآلهة قائلة : أيها السادة الأجلاء, جميعنا يدرك أن الموت صفة ملازمة للوجود, فإذا كان هكذا, فلماذا نحوّل الموت إلى تنكيل وتفضيع في مذابح وحشية مروّعة, لا تعيد البشرية إلى أحضان الهمجيّة فحسب, بل إلى عالم العفاريت والشياطين.
لقد ولد إله بيننا, هو اريس إله الحرب, الذي يقول الإله زيوس أنه كريه على قلبه, ولولا أنه ولده, لرماه وتخلص منه ساعة ولادته. ومأساة الكون بوجود يهوه, لن تتضح إلا بمحاكمة أريس إله الحرب.
قال برهمن : إنه لك يا سيدتي.
تقدم اريس إله الحرب للمحاكمة مبتسماً ووقف صامتاً, ونظر إلى ديميترا نظرة ملأها الثقة بالنفس.
قالت ديميترا : كثيراً ما تكلمت الأساطير عن مصاصي الدماء التي تغدر ضحاياها ليلاً, وكنا نشمئز من سيرتها. فإذا أردنا البحث عن دوافع أفعالها, ربما نجد لها مبرراً, وهو أن القدر, قد كتب عليها أن تتغذى على الدماء. لكننا اليوم نحاول البحث عن لذة وسعادة اريس من سفك الدماء, فلم نجد لها مبرر. فهل يستطيع سيدنا تبرير هذه الأعمال الفاضلة.
أجاب اريس مبتسماً : يؤسفني يا سيدتي أن يخيّب ظنك جوابي. أعلمي يا سيدتي, بأني أكثر الآلهة احتراماً وتقديساً للدماء.
وخاطب اريس الآلهة قائلاً : أن للدماء روحانية شفافة, تعمل على خدمة قدسيّة الوجود, لكن عندما تنحط الحياة, ويثقلها الفساد والعهر والفوضى, احترم روحانية الدم, وأوقف عمل روحانيته, وأقتل وأدمر وأبيد الإنسان أو أي حضارة, كي لا تخدم روحانية الدم المقدسة في أجساد سفلة الوجود.
أجابت ديميترا متسائلة : تبيد حضارات؟!!. ثم خاطبت الآلهة قائلة: ها هو يعترف بإبادة الحضارات, متجاهلاً أن واجباتنا كآلهة, هي حماية الإنسان وليس إبادة الحضارات.
أجاب اريس : أنا لا أبيد الحضارات بعشوائيّة, بل أبيد الحضارات المسعورة, لأنها تشكل ألغاماً خطرة في تفعيل أطماع الحضارات البشرية بعضها ببعض, لتنقض على بعضها وتحيل البشرية إلى مجتمع همجي. لذا فليعلم سياسيوها, أنهم يقودون شعوبهم إلى سكين الذبح, وليعلم السفلة والعهرة من رجال اقتصادها وقضائها, بأنهم بعد أن يبيعوا دماء شعوبهم, فسيتحولون إلى عبيد بأيدي نخاسي الحضارات والشعوب. وأضاف اريس قائلاً: إن الحضارة المسعورة, كالعضو المسرطن, من الواجب بتره, حفاظا على سلامة جسد المجتمع البشري.
سألت ديميترا : ألا يمكنك استبدال لغة القتل و الإبادة بلغة القانون ؟. ألا تستطيع استخدام قوتك لحماية القانون الدولي؟.
أجاب اريس : وهل مهمة الحكمة, هي الحفاظ على حياة الحضارات العفنة؟. إن القانون الدولي الذي يحافظ على استمرارية حضارات منحطة, هو قانون خاطئ, يعمل على قتل الحياة بعفن الظلم و الانحطاط.
لا تقل من الظلم أن تسفك دم حضارة و تزيلها من الوجود, بل قل إنه من الظلم, أن تبقى حضارة على قيد الحياة, تسود قيادتها السياسية قتلة و مصاصو دما , ويسود اقتصادها الأفاقون و المرتزقة و اللصوص, أما عهرتها وقواديها, فتسود قطاعات التربية والفن والقضاء.
قالت ديميترا : يؤسفني أيها الإله القول, أنك لا تدافع عن الحق, بل تدافع عن غرائزك الوحشية في القتل وسفك الدم. ألا تعلم يا سيدي أن حكماء وأولياء, قد قدموا حياتهم, وسفكت دماءهم لأجل تطوير حياة الإنسان؟.
قال اريس مبتسماً : يؤسفني يا سيدتي القول, أن تركيبة عقل من تكلفه الحياة مهمة الجمال والإبداع, غير تركيبة من تكلفه مهمة القتل والفناء. وأضاف اريس قائلاً: ليعلم الإنسان أن الله ليس كبش فداء, يريق دمه غفراناً لخطايا سفلة البشر, بل هو الرحمة المتجلية في الحق والعدل و النظام, والحق هو أن يكون الشيء وفق استحقاقه.
قالت ديميترا: لكن الحياة زاخرة بؤلئك الروحانيين والمتصوفين, الذين عزفوا عن مغريات الحياة, فحققوا أعظم المعجزات, فمشوا فوق الماء, وركبوا الهواء. ألا تفسح المجال أمام الإنسان للإقتداء بمسلكهم ؟.
أجاب اريس : ليعلم رجال الزهد والتصوف, أن الخوارق والمعجزات لا تكون بالسير فوق الماء, و ركوب الهواء, وجلب الذهب من الأثير. بل إن أعظم الخوارق والمعجزات, هو أن يكون الإنسان زاهداً متصوفاً في زمن الحضارات المسعورة سياسياً واقتصادياً وأخلاقيا. إن ادعاء الزهد في زمن هذه الحضارات, إن هو إلا كذباً ورياء,ً أو انتحاراً فجاً أحمقاً. إن محاولة إدراك الحقيقة من خلال ولادة واحدة, هي محاولة فاشلة, تضع الآلهة في مكان واحد مع الأبالسة والشياطين!.
إن النفوس لا تتخذ ولادتها في المجتمعات عن عبث, بل وفق حصيلتها الكارمية. إن الفقر والجوع والمرض والزلازل والبراكين لا تقتل الإنسان بعشوائية, بل تقتله بمقتضى رصيده الكارمي. وأنا لست مسؤولاً عن هذا الرصيد, بل أعمل إلى تحقيق الحق.
خاطبت ديميترا الآلهة قائلة : إن مبررات اريس ويهوه في القتل وسفك الدم واحدة, لا تستند على أية أبعاد إنسانية أو عقلانية. إنهم يردون بعنف على العنف, دون أن يكلفوا أنفسهم البحث عن منشأ هذا العنف. ثم أضافت قائلة: أيها الآلهة إنه من البأس واليأس والإحباط يولد العنف. إن الماء بقدر بساطته وسلاسته وليونته يفجر الصخور ويثني الحديد, عندما يتجمّد. وهكذا الإنسان بقدر طيبته وبساطته, يتحوّل إلى قاتل متوحش, فور فرض البأس واليأس والإحباط عليه. من الجنون أن تفرض على الإنسان التغيّر عبر سلاح التجويع و الإكتئاب والإحباط, لأنهم بدورهم سيتحولون إلى منبع للعنف والطباع السوداوية وحب الانتقام, والتلذذ بعذاب الآخر. إن يهوه قد وضع جميع أعداءه بخانه واحدة, دون التفريق بين أعداءه الأصوليين, والإنسان الحيادي المتمسك بالحياة, تمهيداً لإيجاد مبررات حربه العنصريّة القذرة. يتبع في الإصدار القادم
مقدمة:
بدأنا افتتاحيتنا العام الماضي بنبؤات, دعونا الله تكذيبها, وتمنينا أن تجري الرياح عكس توقعاتنا. لكن أبت الأحداث إلا تصديقنا, وكأن كلامنا أصبح منزلاً, وأن قدرتنا على قراءة الغيب لاتشوبها شائبة. وبما أننا بدأنا العام الماضي متشائمين, لذا قررنا أن نبدأ هذا العام ساخرين, مع رجائنا أن لا يكون عامنا هذا كله سخرية.
في المطلع من كل عام, ينشغل الناس بمطالعة أخبار الفلك, لمعرفة ما تخبئه لهم من حظوظ. وتنشغل أيضاً معظم الوسائل الإعلامية ومن بينها المواقع الإلكترونية في نشر نبؤاتها لمعظم علماء الفلك. ونحن نحذر القراء الأعزاء من مطالعة مثل هذه النبؤات, التي تعتمد على القراءة الميكانيكية والهندسية لمواقع الكواكب في القبة السماوية.
ونلفت عناية القرّاء إلى أن هذه العلوم, تحتاج إلى مقاطعة علمية دقيقة, لعلم الفلك المعاصر مع علم الفلك الصيني, والهندي, والتبتي, وتحتاج إلى "الزايرجا" علم استنطاق الحروف, ومقدرة فائقة أيضاً في علم الضرب بالرمل, وفتح المندل, وتحضير أوسع تشكيلة ممكنة من ألوان الجان والعفاريت .
وبما أن مقدرتنا في هذه العلوم فائقة جداً!! لذا سننفرد الآن في تقديم أصدق وأدق التنبؤات, لتكون دروساً وعظات, لكل من يدعي معرفته في علم الفلك .
تؤكد النجوم, أن الإنسان سيتابع إنجازاته التاريخية الضخمة في عام 2005 والتي بدأها منذ مطلع القرن السابق على كافة الصعد, السياسية, والاقتصادية, والاجتماعية, والإنسانية. وفي ما يلي نقدم هذه النبؤات: أولاً : تؤكد النجوم على اجتياح العالم هذا العام, مظاهرات واحتجاجات صاخبة, مناهضة للمومسات العاهرات , مطالبة ومناشدة ضمائرهن, رحمة البشرية, والعودة والإلتزام في مهنة الفسق والدعارة, وترك أعتاب الفن والسياسة. ثانياً : تتوقع النجوم انطلاق بطولة عالمية جديدة, ستخطف اهتمام العالم, وتلغي بطولة كأس العالم لكرة القدم, وجميع الرياضات الاولمبية. وسيشهد العالم لأول مرة, التصفيات الأولى, للفوز بكأس العالم في بطولة انتهاك حقوق الإنسان.
وتشير النجوم إلى أن الدول الأوفر حظاً للفوز في هذه البطولة, هي الدول المنتوفة. ومن المتوقع أن تبدأ دول ذوات الريش, استعداداتها لهذه البطولة, عبر تطوير أجهزتها القمعية, مستعينة بخيرة المدربين المتخصصين في نهش اللحوم البشرية من الدول المنتوفة. ثالثاً : تبشر النجوم كافة الحركات المناضلة ضد الاستعمار في العالم, بأن الاستعمار أخيراً سيغلق باب نشاطاته الاستعمارية المعادية للشعوب, وسيحزم حقائبه, وسيعود من حيث أتى. ليس بسبب ضعفه وهزيمته, بل بسبب اكتشافه أن الأنظمة القمعية في الدول التي تدعي النضال ضد الاستعمار, تقوم بعمل أعظم من أعماله بها في هدم الانتماء الوطني, وتقطيع أواصل التواصل مع الجذور الإنسانية, وتكريس الضعف والتبعية.
هذا وتبشر النجوم الأنظمة القمعية بأنها ستنال نياشين, وأوسمة, ومكافآت بالعملات الصعبة من دول ديمقراطية الدبابة.
وتبشر النجوم العالم أيضاً, بأن المبدأ الكوني الذي يقول البقاء للأقوى, سيتبدل, وسيصبح, البقاء للأنذل. رابعاً: تطمئن النجوم زعماء الدول المنتوفة, أن لا خوف على مستقبلهم من إفلاس دولهم, وانتشار الفقر والجهل والمرض والبطالة في مجتمعاتهم, بسبب أن العالم سينتقل من اقتصاد السوق, إلى اقتصاد الرقيق والعبيد. وتنصح النجوم هؤلاء الزعماء, أن يطرحوا شعوبهم في سوق الرقيق والعبيد الدولي, وتدعيم أرصدتهم الذهبية عبر بيع شعوبهم في الأسواق العالمية.
وتتوقع النجوم أن تحلّق أرصدة هؤلاء الحكام عالياً, وأن يدخلوا كتاب "غنس" في أغنى أغنياء العالم في النخاسة الدولية.
لكن النجوم تحذر حكام العالم من الإفراط في طرح شعوبها في سوق النخاسة الدولية, مما يؤدي إلى الانهيار الحتمي في أسعارها. وتنصحهم أيضاً أن يبدأوا في إعدام الأعداد الزائدة من الرقيق والعبيد بحجة "انفلونزا الرقيق" على غرار انفلونزا الطيور. خامساً : تبشر النجوم سكان العالم من أن عام 2005 سيشهد كشفاً علمياً عظيماً في مجال الهندسة الوراثية, حيث سيمكّن هذا الاكتشاف الإنسان من إنتاج ألوان متعددة للرقيق, بدل اللونين المملين الأسود والأبيض. ومن المتوقع أن يبدأ الإنسان في هذا العام, إنتاج رقيق من اللون الأحمر, الصالح للذبح, والاستهلاك البشري, مما يسهم في تحقيق الأمن الغذائي العالمي, ورفع الحيف عن أعناق الأغنام والدجاج.
سادساً:سيكتشف علماء الأمواج الصوتية بمساعدة خبراء الكمبيوتر, وسائل متطورة جدّاً, لتحويل ثغاء الماعز, ونهيق الحمير إلى أصوات غنائية, قابلة للإنتاج الغنائي والتوزيع التجاري. بذلك ستوفر شركات الإنتاج الفنية أجرة الفنانين الباهظة الثمن. وتتوقع النجوم نجاح هذه الشركات في هذا المشروع, وأن لا يتأثر تسويقها التجاري, كون هذه الشركات قد ناضلت, واجتهدت طيلة السنوات الماضية في تفريغ المشاهد ذوقياً, وفنياً, وأخلاقياً.
وتتوقّع النجوم أن يصبح عدداً كبير من نجومالغناء عاطلاً عن العمل, مما سيضطرهم العودة إلى مهنهم الحقيقية, كبائعي خردة وملذّات, وعربجيّة. سابعاً :تتوقع النجوم أن يرفع البروفسور حي بن يقظان, دعوة قضائية ضد الكاتب الكبير محمد الماغوط بسبب ديوانه سأخون وطني. هذا وقد حاول البروفسور اختبار حالة خيانة الوطن, إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً, والسبب ليس عائداً للقيم والأخلاق التي يحملها, بل عائد لعجزه عن إيجاد وطن له, كي يخونه!!
ويقول البروفسور إن الأوطان التي عرضت عليه, ما هي إلا تجمعات لكتل بشرية, فوق رقع فسيفسائية من الأراضي, تسودها قوانين الطغاة!! ثامنا ً: تتوقع النجوم أن يدخل جميع الطغاة الجنة, كونهم ينتهكون كرامة الأنسان على الأرض, خدمة لقول السيد المسيح: لا كرامة لنبي في وطنه. وبالتالي عندما تنتهك كرامة الإنسان في مكان ما, يدرك آنئذ, أنه تماماً في وطنه, الذي جاهد جهده الجهيد, كي يعيش فيه!! تاسعاً :تحذر النجوم الفنان ياسر العظمة من مغبة الوقوع في مطبات صعبة, نتيجة اتهامه بجريمة نخش الضمائر الميتة, مما يشكل سابقة خطيرة في تدنيس قدسية حرمات الموتى. عاشراً : تتوقع النجوم أن ترفع منظمة حماية حقوق الحيوان, دعوة قضائية ضد الكاتب الكبير ممدوح عدوان, بسبب الاعتداء على كرامة الحيوان في كتابه حيونة الإنسان. هذا وقد استفز هذه الكتاب مشاعر الحيوان, نظراً لكونه لا زال يخضع للقانون الكوني, ويتمتع بعاطفة بريئة صادقة, ويحاول جاهداً, إصلاح ما يخربه الإنسان.
وتتوقع النجوم عجز الكاتب الكبير على تغيير العنوان من حيونة الإنسان إلى وحشنة الإنسان, بسبب أن الوحوش تمتلك قوانين افتراس, أرقى بكثير من غريزة الافتراس التي تتملك الإنسان.
ملاحظة: كتبت هذه النبؤة قبل وفاة الكاتب الراحل ممدوح عدوان بأيام. عزاؤنا أنه نال مصير رامن مهاريشي و راما كريشنا, أولئك الذين استفزوا آلهة الفساد والدمار بوعيهم, فقتلتهم بالسرطان!!. حادي عشر: تتوقع النجوم نجاح أحد الصحافيين الشجعان, التمكن من التسلل إلى مكتب الملفات السريّة, والحصول على أكثر الملفات سريّة- في نيل وتحقيق الحرية دون عنف.
هذا وقد فجر صاحب هذا الملف عقول أصحاب السيطرة والتحكم, واعتبر سابقة خطيرة في الفرار من الوطن, وتحقيق الحرية, دون قدرتها على استرجاعه من أجل ركوبه واستغلاله.
وتتوقع النجوم أن تصعق عقول الفلاسفة والحكماء, عندما يعرفوا أن رائد الحرية هذا هو حمار, تناقلت وكالات الأنباء خبر فراره من راكبيه, ودخوله حقل ألغام في منطقة حدودية, تعتبر أكثر المناطق توتراً في العالم, وعجز أصحابه عن المغامرة بحياتهم, من أجل استرجاعه.
هذا وتشير التقارير السريّة, بأن الحمار لا زال يعيش عيشة هانئة, متنقلاً بين الكلأ, دون أن يعكر صفوه أحد. متنقلاً بين الألغام, مدركاً أن حياته بينها, أشرف من حياة الذل والاستعباد. ثاني عشر: تتوقع النجوم حدوث ثورة كارثيّة عظيمة في مجال علم السياسة والإدارة, أثر البدء في إفشاء أعظم الأسرار التاريخية, التي انتهجها أقدس الخلفاء والسلاطين التاريخيين في ضبط رجالات الحكم والشعوب.
هذا وتتوقع النجوم أن تبدأ الجامعات والأكاديميات هذا العام, تعليم طلابها كتاب "سرالأسرار في اللواط- لغة الفحول السياسيين".
وتشير الدراسات التاريخية أن الخلفاء الفاطميين, قد استخدموا هذا الأسلوب, من أجل مكافحة الفساد, بعد توسع دولتهم, وزيادة عدد عبيد السلطة.
أما الخلفاء العباسيين- المعصومين عن الخطأ والزلل, طبعاً- من أمثال الواثق بالله "كل الثقة" والأمين ابن الرشيد – قدس اللهأفعالهم وزكى سيرتهم العطرة- فقد هداهم الله حق هداية, إلى ممارسة اللواط على مرأى من أعين رجالات حكمهم وشعوبهم على حدٍّ سواء, ليذكروهم دائماً بحجومهم السياسية, وليحددوا لهم سمات الشعب المطلوب حكمه.
لكن النجوم تحذر الحكام من الإفراط في استخدام اللواط بحق الشعوب, خوفاً من ضعف الانتصاب عند الذكور, وتحوّلهم التدريجي نحو التخنث, وبالتالي التوقف عن إنجاب العبيد لخدمتهم.
وتقول النجوم: إن اللواط ليس لغة الفحول السياسيين فحسب, بل لغة الفحول العسكريين أيضاً. وتتوقع النجوم أن تتقد الشهوة بين ضلوع "نيرون" سيد هذا العصر "بوش بن شارون" على ذكرهما الاستسلام, لكي يلوط بالعراق, انتقاما لسبي أبناء يهوه. وتتوقع النجوم صمود العراق في الدفاع عن كرامته, مما يجبر السيد نيرون على إنذار قادة العالم, للتعاون معه لمساعدته في تحقيق مهمته الإلهية, الموحاة إليه من إلهه, لتثبيت ظهر, وفتح قدميّ العراق بالقوّة, حتى يتمكن التلذذ بفحولته العسكرية.
ولاتستغرب النجوم, طلب سيد العالم, بتحول قادة العالم إلى قوادين, لكنها تستغرب مساعدته في تثبيت ظهر, وفتح قدمي العراق, حفاظاً على كرامتهم!!!!!. وإلى اللقاء في زمان ومكان لا يمكن التوقع فيه, حدوث مثل هذه التنبؤات.
بينما كان إله الحياة يمر بجانب إحدى الحانات, سمع صوت صخب وصراخ قهقهة فاجرة ماجنة, منبعثاً من فاجرات ماجنات ورواد بيوت الدعارة. فاستغرب سرّ هذا الضجيج الصاخب, وقرر الدخول ليستطلع الأمر.
دخل إله الحياة بيت المجون و هاله أن وجد المومسات الماجنات, قد تعرين من ثيابهن, ورحن يتساقطن ويتدحرجن من حضن رجل إلى آخر, بينما الرجال راحوا يقهقهون ويصرخون بجنون ولذة, ويتصرفون تصرف الخلاعة والوقاحة.
تأمل إله الحياة في وجوه الرجال و صعق أن وجد من بينهم الحكيم الحاكم, والقديس, والفيلسوف, واللص والمجرم.
لم يتحمل عقل إله الحياة ما شاهده, فصرخ صرخة كبيرة زعزعت المكان و جفل كل من كان في الحانة و توقف الصخب.
اتجه إله الحياة إلى الحاكم وقال متهكماً: الحاكم هو الإله المنظور على الأرض, إنه يرعى الفضيلة ويقود الآحاد إلى الواحد. إنه الألوهة المتجسدة في الإنسان الفاضل ليرعى اختبارات الفرد في الحياة, ليحميه من لعبة الانفصال عن الذات الكلية, وليعيده إلى حضن الأزلية الطاهر. ثم كرر إله الحياة قائلاً: حضن الأزلية الطاهر وليس أحضان المومسات.
ثم اتجه إله الحياة إلى القديس وقال له: أحييك أيها القديس الفاضل, يا من نذر حياته وتبتله لمكاشفة الحقيقية. أحييك أيها العين المستبصرة وراء وهم المكان والزمان. يا من يستشعر بروحه وكيانه متغيرات الزمن. يا من كاشف الألوهة و لاذ بالصمت والزهد والورع. يا من تعبدت البشرية قداستك وزهدك و ورعك, فتراكضوا وراءك يقتفون أثرك. يا من تغنت البشرية بحكمتك و مواعظك فجعلت منها آيات.
ثم كرر إله الحياة قائلاً: آيات للقداسة والطهارة وليست آيات للنجاسة والدعارة.
ثم قال إله الحياة معنفاً: ألا تخجل من نفسك يا رجل؟..كيف تعيش ازدواجية القديس والعاهر, المتأله والشيطان, الناسك والفاجر؟.
ثم اتجه إله الحياة إلى الفيلسوف قائلاً: و أنت يا أيها الفيلسوف الأعظم, يا تجلي الوعي السامي في الإنسان, أيها الضمير الكوني المرتحل في انفلاش الكون, أيها الجوهرة الكونية التي تعي ذاتها بذاتها.
ثم تساءل إله الحياة ساخراً: هل انتهت مهمتك في وعي المطلق ولم يبقَ أمامك إلا أن تأتي إلى هنا لتعي متعة الفسق والمجون بين أحضان المومسات؟.
وضع إله الحياة يديه على وجهه ثم صرخ وقال: كنت أظن أن هذه الحانات قد خلقت للصوص والمجرمين, ولم أكن أتوقع وجودكم فيها.جلس إله الحياة على الأرض وراح يبكي.
اقتربت إحدى المومسات من إله الحياة وتظاهرت بلمسة حنان و مررت يدها على أماكن مثيرة, فانتفر منها وقال لها ابتعد عني أيها الشيطان.
قال الحاكم: على رسلك أيها الإله. لا تجعل الغضب يعمي بصيرتك ولا ترفض النعمة والرحمة. فأنت لم تختبر المحن التي أوقعتنا بها حكمتك. ثم كرر الحاكم ساخراً: حكمتك؟! أية سذاجة و أية حماقة قادتك إلينا فصدقناك, وأصبحنا سذجاً حمقى رعاعاً تتقاذفنا أسنة رماح وسيوف أكلة أرواح ونفوس البشر.
وأضاف الحاكم قائلاً: الحاكم هو الإله المنظور على الأرض هذا ما علمتني إياه فأوقعتني في لعبة الحماقة والسذاجة واستهلكت حياتي وراء اختبارات لعينة. لقد حكمت شعباً خبيثاً فاجراً لا يعرف الحب ولا الرحمة. شعب تأصلت به العائلية والعرقية وشبق رهيب للعنف وسفك الدم. شعب لا تهمه الحقيقة ولا الفضيلة. شعب هو تجلي للهمجية بعينيها. إذا أعطيته الحرية سفك دمك, وإذا أعطيته المحبة اعتبرها جبناً, وإذا أعطيته الرحمة اعتبرها ضعفاً, وإذا منحته النور والمعرفة داسها بأقدامه كالخنازير. شعب تاريخه دموياً بشعاً. وطلبت مني أن أقود الآحاد إلى الواحد, أن أكون الألوهة المتجسدة في الإنسان, ليرعى اختبارات الفرد في الحياة, ليحميه من لعبة الانفصال عن الذات الكلية, ويعيده إلى حضن الأزلية الطاهر.
ثم صاح الحاكم بإله الحياة قائلاً: يا إله الحياة يا إله السذاجة والحماقة, لمَ لم تعلمني أن هذا الشعب يحتاج النار, يحتاج الترويض كما تروض الوحوش والضواري, كي يتطهر من آثام و جرائم تاريخه السافل.
ثم أضاف الحاكم قائلاً: لقد أعطيت هذا الشعب قلبي وحبي وحياتي, علّه يحترم نفسه, علّه يحترم الإنسان, علّه يحترم الحياة, فلم أرَ في الشعب إلا اللصوص تزداد غنى, وتجار الفكر والفلسفة تفيض بكم هائل من نتاجٍ مزيف, والمحتكرون يسيطرون على الأسواق, والدجالون والأفاقون يسدون أعتاب السياسة, والحقد والكراهية تعم قلوب الناس. حاولت جهدي كي أعلم السياسيين المبادئ والأخلاق, وكي أعلم رجال الفكر والقلم الضمير, وكي أعلم رجال الاقتصاد الحكمة والرحمة, وكي أعلم الناس الحب والفضيلة. فماذا كانت النتيجة؟..اعتبرني الشعب أحمقاً أخرقاً, واعتبرني رجال السياسة والاقتصاد ساذجاَ غبياً, واعتبرني رجال الفكر جباناً رعديداً. هنا علمت ضرورة حقيقة الحكمة التي تقول كما تكونوا يولى عليكم. لهذا أرجو منك يا ملك الحياة أن تجد غيري لهذه المهمة. فهذا الشعب لا ُيحكم إلا بالحديد والنار والإعدام والسجن. دعني أيها الإله هنا أتفيء عطر الخمر, وألامس أجساد غضة, ودعني أعوض حياة البؤس والجحيم الذي ذقته بسببك.
اقترب القديس من إله الحياة وقال: ماذا تنفع القداسة والطهارة في زمن العهر والابتذال. لا تلمنا يا ملك الحياة بل حاول أن تلوم نفسك. لقد أنجبتنا سابقي عصرنا بآلاف السنين. ليست كل الشعوب بمقدورها أن تعي معنى القداسة. الشعوب القبلية و العائلية ترى القداسة في عدائية الآخر, والشعوب الدموية والمحبة للعنف والهمجية ترى القداسة في القتل وسفك الدم. لقد أنجبتني إلى شعوب لا تعرف الحب ولا الرحمة وطلبت مني تعليمها الطهارة والقداسة. فرفضتني, لأنها تتطهر بالدم, وتتقدس بالعنف. لذا قررت إما أن أقتل نفسي كي أريحها من العذاب أو أن أحافظ على حياتي و أعوض نفسي عن الشقاء والحرمان. وصدقني يا ملك الحياة أنني لم أندم في حياتي على شيء إلا لظلمي للمومس. لقد كنت أعتبرها شيطاناً كريهاً لعيناً يدمر العائلة والفكر والمجتمع , لكني هنا وجدتها إنساناً آخر. إنها تدمر نفسها كي تمنح الآخر اللذة والسعادة وصدقني أن الجنة التي تكفي حلمي المشوه وجدته هنا.
صرخ إله الحياة رافعاً يديه إلى الأعلى كفى ... كفى.
اقترب الفيلسوف من إله الحياة قائلاً: ماذا ينفع عقل الفيلسوف وسط مجتمعٍ من المجانين؟ . إذا كانت مهمة العقل استقراء واستنباط المعرفة من الواقع بغية رفع وتطوير مفاهيم الحياة. فمهمة المجنون تنفيذ حكم السجن خارج حكمة العقل. المجنون يحتاج العقل لكن القدر قد أغلق عليه السبيل عقاباً له. فإذا منع القدر العقل عن المجنون فلماذا يا إله الحياة أنجبتني كعقلٍ بين المجانين؟. هل لمعاقبة المجانين؟. قطعاً لا ... بل لمعاقبتي أنا!. العاقل بين المجانين, مجنون؟.
ثم سأل الفيلسوف إله الحياة قائلاً: أي إثمٍ اقترفت وأي جناية ارتكبت كي تأتي بي إلى هذا الوسط السافل؟. أتظن أن بيت الدعارة هذا أكثر سفالة؟. كلا ... كلا ... على العكس تماماً, المومس أكثر حكمة منا جميعاً. لقد أدركت مكامن ضعفها فلم تراوغ فاستسلمت للواقع. لقد مارست الرغبة حتى ماتت في أعماقها. إنها تعرف قدر نفسها فتحتقرها وتحتقر حياتها. إنها حكيمة أدركت نهاية رحلة حياتها وهي إلى القمامة. ليتك يا إله الحياة علمتني الحكمة كما علمت المومس. لقد خدعتني وأقنعتني بقوة العقل وسط المجانين وعلمتني قيمة الحكمة في زمن الجنون والسقوط. ليتك علمتني يا الهي أن ممارس الحكمة والعقل في هذا الزمن كممارس الدعارة كلاهما سينتهيان إلى القمامة!.
اقترب اللص من ملك الحياة وقال: ها أنت تشهد الآن بأم عينك سقوط الحاكم والقديس والفيلسوف والمومس معاً. وكنت تعلمني يا سيدي دائماً, أن أكون واقعياً. وقد جنبتني الحكمة أن أسقط سقوط المجانين السذج و الرعاع. وطالما لا يستفيد المجنون من ممتلكاته, وطالما لا ينفع العقل, السذج والمخبولين من أمثال القديس والفيلسوف, فلم لا أستفيد أنا منهم؟. صحيحٌ أنا أسرق ممتلكات غيري, لكني افعل هذا بدافع تقديس النعمة التي لا يعرف حق قدرها سوانا نحن اللصوص حكماء هذا الزمن.
تقدم المجرم من إله الحياة وقال: إذا ازداد العفن في الحياة إلى الحد الغير مسموح به, دمرها. إن الحياة تعج بالعفن والفساد والحسد والحقد والكراهية. لهذا آثرت حماية الحياة من الدمار عبر قتل المفسدين.
ثم أضاف المجرم قائلاً: صدقني يا إله الحياة إن هذا الزمن يحتاج الموت أكثر مما يحتاج الحياة.
صمت المجرم ثم قال: لا تظن أيها الإله أنني عندما أقتل, لا يكابد قلبي آلام العذاب. صدقني أن عمري كله عذاب بعذاب. لهذا فلا أجد لنفسي الراحة والعزاء إلا هنا. وأنا أشكر الله لأنه أبدع لنا المومس كي تخفف عن أنفسنا إصر العذاب. وتبقي لنا متعة رحلة الوضاعة والسقوط في زمن العهر والابتذال.
اقتربت إحدى المومسات من ملك الحياة وقالت: عندما تصادر القوى الطاغية إمكانيات العمل الشريف, فإنها تدفع الناس إما إلى السرقة أو الدعارة أو الانتحار. أنا لست شجاعة بالقدر الكافي كي اسرق أو انتحر. لقد أدركت يا سيدي حقيقة جبني وضعفي ولم أستطع صم آذاني عن صوت الحياة الصاخب في أعماقي الذي يدفعني للذة والمتعة, فاستسلمت لضعفي, ورحت أبيع اللذة مقابل حفنة قليلة من المال.
ثم كررت المومس قائلة: أنا عاهرة أبيع اللذة مقابل حفنة مال, لكن الفيلسوف يبيع لذة الفكر, لسفلة مقابل حفنة أقل من المال, أو قدرٍ حقير من رضا الذات. فماذا تسمي فعله هذا إذاً؟.!!. القديس يبيع قداسته للجهلة والرعاع مقابل إعجاب السذج والحمقى, فماذا تسمي فعله هذا إذاً؟!!. الحاكم الحكيم يبيع قداسة روحه وتجاربه الكونية لعصابات من السفلة والقتلة مقابل تمجيد وتخليد اسمه. فماذا تسمي فعله هذا؟!!. هل أنا وحدي أمارس الدعارة؟. أم أننا جميعاً نمارس الفسق والدعارة؟!.
وأضافت المومس بصوت الواعظ الواثق: نحن يا سيدي نمارس جميعاً الدعارة في مملكتك وتحت أنظارك. وكم حريٌ بك أيها الإله أن تغير اسمك من إله الحياة إلى إله الدعارة.
صرخ إله الحياة: كفى ...كفى . و خرج من الحانة مترنحاً واتجه إلى بحر التكوين وقرر أن يلقي بنفسه هناك وينتحر.
لكن كبير الآلهة تجلى له وصاح به: على رسلك أيها التائه.
أجابه إله الحياة: ذات يوم تساءلت معك أيها الإله عن مبرر إبداعك للموت فأجبتني: سيأتيك زمن تقول لي فيه, كم هي الحياة قاسية وظالمة دون وجود إله الموت. أجل ... عندما يصبح أي عمل شريف مهما كان نزيهاً قيد الاشتباه, وعندما تصبح الوضاعة, السبيل الوحيد لعبور الحياة. يكون الموت مطلباً مصيرياً ملحاً.
صمت إله الحياة ثم أضاف قائلاً: كفى الحياة انهياراً, وكفى العقل محنة, وكفى الروح متاهة.
قال كبير الآلهة: على رسلك, لمَ لم تفكر بالحكمة المستترة وراء هذا الانهيار وهذه المحن والمتاهات؟.
قال إله الحياة: إذا فقد القلب الحب هل يبقى هناك أي معنى للحكمة؟.
قال كبير الآلهة: عبدة المطلق تتجاوز هذه المعايير والمعاني. إنها تتحدى كل تحدٍ.
قال إله الحياة: أنقذني ... ساعدني ... قل لي كيف يستطيع عابد المطلق تجاوز هذه المحنة.
أجاب كبير الآلهة: عابد المطلق يدرك أن المجتمعات تجلّي نوعي كارمي. الإنسان الوضيع يولد في مجتمع سافل. الإنسان الفظ القاسي القلب يولد في مجتمع العنف والدموية.والإنسان الدنيء يولد في مجتمع الخساسة. علاوة على ذلك لا يستطيع الإنسان السفر وتبديل مجتمعه إلا بموجب حصيلته الكارمية.
وأضاف كبير الآلهة: وكما تكونوا يولّى عليكم, فالمجتمع الدموي لا يستطيع حكمه إلا الطغاة المتسلطين. والمجتمع الأناني لا تحكمه إلا السفلة واللصوص. والمجتمع الدنيء لا تحكمه إلا الكَذَبَةُ والمنافقين. إن النفس تأتي العالم وتختار المجتمع الذي ستولد فيه وفق بصمة طبائعها التي اكتسبتها عبر نشوئها وارتقائها. أما النفوس الإلهية وأبطال المعجزات الكارمية, فتأتي الحياة مختارة أبشع أنواع المجتمعات, وتتخذ ولادتها بين الجهلة والقتلة واللصوص, لتعينهم على تصفية حساباتهم الكارمية كي لا تخلو الدار من الفاضل, وكي تبقى الحقيقة والمرحمة بين ظهراني البشرية, وكي تبقى الصفة الإلهية في الكرم والتضحية متجلّية بين البشر وهم لا يبصرون.
ثم أضاف كبير الآلهة: النفوس الإلهية لا تأخذ الحياة بمقاييس الربح والخسارة, ولا تفرق بين التراب والذهب, والحر والبرد, والموت والولادة. النفوس الإلهية تدرك عظمتها, لأنها إذا بصقت على الجحيم أحالته إلى جناة ونعيم!!. الصبية والمراهقين مدّعي الحكمة والقداسة والفلسفة, تبكي وتصيح وتنوح كلما واجهتهم المصاعب والمحن من أمثال القديس والفيلسوف والحاكم, الذين صادفت تيههم وضياعهم, وفرارهم من حياة الطهارة إلى حياة الدعارة.
وأكد كبير الآلهة قائلاً: عابد المطلق يدرك أن الحياة أغلى وأثمن من كل حكمة يمكن اختزالها بأي فكر. إنه يعيش حياته الأرضية بحسابات التاجر والمقامر, مقدماً كامل نتائج عمله للحقيقة المتعدية للأنا. إنه رجل التجارب والمصائب والمحن. إنه هو ذاته من تحدى الوهم, ومن تحدى الحواس, ومن تحدى كل تحدٍّ, فلا قلب يزداد نبضه ساعة الفرح, ولا ينقص ساعة الخوف .. الحر والبرد لديه سيان, لأنه إذا بصق على الجحيم أحاله إلى ريحان ونعيم !.
عابد المطلق كالعباد الذين ذبحوا, وكالزهاد الذين صلبوا, وكالأولياء الذين طردوا . وقد خفضت درجات بعضهم لأنهم تأوهوا ساعة بتر أوصالهم !.
المطلق يستحق أن تتحمل أكثر من ذلك, عندما يناديك المطلق فلن تسعك جنة, ولن يسعك قلب, ولن يسعك كون, لأنك ستبدو فوق كل ما يقال, أو فوق كل ما يوصف, وفوق الواجب والوجوب, وفوق العين والمعاينة. ستبدو نقطة الخلاء, التي لا تصل إليها الخواطر ولا الأوهام, تستمد لطائفها أكوان الأكوان, وتسجد لديها عظام العظام . إياك أن تناقش لأنك أصبحت فوق الواجب, فإن كان لا حد للواجب, فكيف تستطيع البحث عن حدٍّ لك, وأنت في هذا المقام الأسمى .
( آلهة الزمن ) [IMG]file:///C:/Users/ASUS/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image014.jpg[/IMG]
مقدمة:
هذه السجلات خطرة جداً. إذا أردت قرأتها,اقرأها بصمت وحذر. وإياك إياك أن تحكم عليّ من خلالها, فتقع في فخ كالي.لأنك إن حكمت عليّ بالإيمان,كنت جاهلاً!!.
وإن حكمت علي بالكفر, كنت أحمقا!!.
وإن وقعت في الحيرة, فأنت مثلي كل ما تعرفه هو أنك لا تعرف شيئاً.
وإن حكمت عليّ بالجنون, فكلانا أبناء كالي . وما هذه الفضائح سوى فضائحنا!! وإن اتهمتني بالشيطان, فقد ظلمتني وجعلت مني إلهاً!!.
لازال في جعبتنا الكثير من الفضائح. لكن فضائحنا لا تهدف إلى التجريح والتشهير, بل تهدف إلى الإنذار والتحذير من مغبة مسلك, يقود البشرية إلى هاوية الدمار والفناء. لكننا نخشى أن يساء فهم ما تبقى من فضائح لذا آثرنا سترها.
وها نحن الآن نختتم فضائحنا بـ ....
فضيحتي مع كالي
نفذ مخزون العمر, وتلاشى شوقي للحق, وغارت الشياطين من عالمي. وهاأنذا أقف وجهاً لوجه أمام كالي.
لقد تعبدها تلميذها الفذ ّ المخلص راما كرشنا, فأرسلت مياه البحر على قلبه, فعاش في لحظة واحدة حياة ألف ألف ربيع.
قال الحكماء: عندما يفقد الإنسان لـذّته في الأشياء ولا يعود أمامه ما يتوجب عليه فعله, تعود القطرة إلى مياه البحر.
لكن سقوط ودمار العالم, وشعور الاكتفاء والاتزان, أمران لا تقبلهما إلا عقول المجانين السذج. أما العمل دون نتيجة وفرح فإنه ُيفقد النفس المثابرة والكفاح. لهذا أمست الحياة الروحية كسل وسذاجة. وأمسى الفرح والبهجة في العمل عهراً وانحطاطا.
ترى كيف يستطيع الإنسان عبور كالي بفرح العمل, ومداواة جراح العالم, دون استفزاز كالي- سيدة الألم والجحيم؟.
هاهو ذا صوت كالي يتردد صاخباً: على جثتي ...اقتلني ...اقتلني... وكن قاتل أمه لتحل عليك لعنتي الّتي هي بركة سماوية!!. ففي الحياة موت, وفي الموت حياة.
هناك في قبور التكوينات, أسرار الوجود والارتقاء. لا مفر لك من عبور الأطوار والأكوار والأدوار.
ففي موتي وولادتي طور جديد, وثوب جديد. في الحياة درس, وفي الموت دروس.
هناك في قبور مصر القديمة, وفي صمت جبال التيبت حكم ومواعظ, لأولئك الّذين استطاعوا فهم لعبة خداع الموت والولادة, وأدركوا لعبة صناعة الحياة.
الفرح والبهجة, فخ قاتل. والقرف والاشمئزاز, عدم وفناء. العلم والمعرفة, جنون وغباء. الفرار والهروب, موت وتحلل.
وتردد صوت كالي مدوياً:لا مفر لك إلا بقتلي !!. لكنك لن تستطيع قتلي إلا بجسارة البطل المتمرّس. من له قلب ثابت وعزم لا يلين. لا موت يفزعه , ولا فرح يغريه. لا ثواب يرجوه, ولا عقاب يخشاه.
القتال والقتل مسألة من السذاجة الإعراض عنها. فأنا أقتـُل كي أُقتـَل. وأجهـِض كي أجهَض, وأسفك الدماء كي يسفك دمي.
إن لم تتجاسر على قتلي فلن تعبرني.أنا تلك المجنونة القاتلة الـّتي تهيم حباً بقاتلها!!.
وتابع صوت كالي ناصحاً: أقتلني بإدراكك أنه ( لا أحد يساعدك غيرك ). أجهضني بمعرفتك أن خلاصك موجود في ( الآن وهنا ) وليس في أي مكان أو زمان آخر. أسفك دمي بثباتك بوجه عواصفي وجنوني. إن السراج الذي يستمد هواءه من الوسط الخارجي سرعان ما تطفئه الرياح. أما السراج الذي يستمد طاقة نوره من ذاته, فلا تطفئه العواصف ولاتقوضه الزلازل.
كن يا بني ذلك السراج الغني بذاته عن كل أثر خارجي. استمد نور وعيك من عقلك الباطني. عد أدراجك من العالم الخارجي بعد استنفاذك لواجبك ورغباتك. وتأكد يا بني, بأني أنا ذاتك التي يشتعل نار جنونها, كلما شعرت بأنك أصبحت بعيداً أو غريباً عنها, لهذا أقتل تيهك, وأجهض حلمك, وأسفك دم رغباتك.
وتابع صوت كالي قائلاً: إن سر تيهك وضياعك يا بني, هو أنك تبحث عن الله في الكون, لكن الله يا بني هو روح الحق خلف الكون. الكون يا بني آلة كونية يتمثل عليها أعراض الحق, من كون وفساد وبناء وهدم, وما لم يعبر قلبك هذه الحقيقة, فستبقى أنت تائهاً في آلة الكون, وسأبقى أنا في فكرك تلك الشيطانة الكونية التي تعيش على مص دماء أبنائها.
توضيح
تُدعى المقتطفات التي يقوم عليها هذا البحث، والتي تتشرف معابر بنشرها مترجمةً لأول مرة إلى العربية، "سُوَر دزِيَن" Stanzas of Dzyan. وهي تتألف من قسمين أساسيين: القسم الأول يدعى "التطور الكوني" Cosmic Evolution؛ فيما يُدعى القسم الثاني "نشأة الإنسان" Anthropogenesis.
ونشير هنا إلى أن هـ.ب. بلافاتسكي كانت أول من عرَّف العالم بوجود هذا السِّفر في أواخر القرن التاسع عشر. فقد بنتْ عليه كتابها الرائع العقيدة السرية، حيث تحدثت عن أصل الكون والمنظومة الشمسية وتطورها عبر مراتب وجودها، وعن نشأة الإنسان وتفتحه عبر ذرِّياته المتتابعة، وعن الأصل المشترك لجميع الأديان.
على هذا السِّفر، في محاولة متواضعة للربط بين الأسطورة والعلم، بنينا محاولة بحثنا هذا، حيث...
جاء في مقدمة إنجيل يوحنا:
في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان هو الله... إنجيل القديس يوحنا 1: 1
1
وأيضًا، جاء في الحديث النبوي الشريف: "كان الله ولا شيء معه يوصف بالوجود...". وتذيِّل الصوفية ذاك الحديث الشريف بقولها: "... وهو الآن على ما عليه كان". وأيضًا، قال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية أنْ: ... لو علمتَه لم يكن هو ولو جهلك لم تكن أنت فبعلمه أوجدك وبعجزك عبدته فهو هو لهو، لا لك. وأنت أنت لأنت – وله! فأنت مرتبط به، ما هو مرتبط بك. الدائرة – مطلقةً – مرتبطة بالنقطة. النقطة – مطلقةً – ليست مرتبطة بالدائرة. نقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة...
ونبدأ من هنا: ... نبدأ من تلك النقطة التي تتراجع عندها [كما يقول الروائي السرَّاني بَلْوِر ليتُّون] الأجنحة المثقلة للمعرفة المعاصرة، حيث يمتلك بعضهم [ربما]، بكلِّ تواضع، بعض العناصر المشتركة للمعرفة، التي يحتقرها اليوم مدَّعو العلم بوصفها خرافات، بسبب عجزهم عن سبر أغوارها اللامتناهية.
ونبدأ من الأسطورة...
وإن شئنا أن نكون أكثر شاعرية، كما قالت هـ.ب. بلافاتسكي في نهاية القرن التاسع عشر، نبدأ من -... كتاب قد يكون حقيقيًّا. يقال إنه موجود في مكان ما من هذا المسكونة الواسعة. كتاب يبلغ من القِدَم حدًّا يقف علماءُ الآثار أمامه، إن أتيح لهم التمعن في صفحاته مدة لامتناهية، عاجزين على الاتفاق حول طبيعة المادة التي كُتَِب عليها... -... كتاب متوفر فقط في نسخة وحيدة... -... مغرق في القدم، كانت صفحاته، ربما، من أوراق النخيل التي عولجت بطريقة أضحت اليوم مجهولة، فأصبحت لا تتأثر بعوامل الماء والهواء والنار... -... على صفحته الأولى رسمٌ لقرص ناصع البياض وسط خلفية سوداء داكنة. يليه، على الصفحة الثانية، نفس القرص، وقد أضحت تتوسَّطه نقطة. يليه على الصفحة الثالثة نفس القرص، وقد تحوَّلت النقطة التي تتوسَّطه إلى خطٍّ أفقي...
يشير الرمز المرسوم في الصفحة الأولى، ربما، من خلال الدائرة الناصعة البياض وخلفيتها، إلى الكون الكامن في قلب الأزل قبل انبثاق الطاقة؛ وحدوده تشير، ربما، إلى حدود معرفتنا. والرسم الذي يلي، قد يشير، من خلال النقطة، إلى تلك النطفة التي لم تتمايز بعد، فتتحول من بعدُ إلى خليقة، أضحتْ ممثَّلة رمزًا، من خلال الرسم الثالث، بخطٍّ أفقي، يمثِّل كوننا المنبثق من العدم.
ونحلِّق في الخيال مع ما تفترضه الحكمة التيبتية...
2
غيب الغيب أو... ما قبل الخليقة
يقول الكتاب التيبتي: 1.كانت الوالدة الأزلية، متسربلةً بأثوابها المستترة أبدًا، قد هجعت من جديد لسبع أبديات. 2.الزمن لم يكن؛ إذ إنه كان يرقد هاجعًا في الحضن اللانهائي للدهر. 3.العقل الكلِّي لم يكن؛ إذ لم تكن كائنات سماوية موجودة لتحتويه. 4.الطرق السبعة إلى الغبطة لم تكن. وعللُ الشقاء العظيمة لم تكن؛ إذ إنه لم يكن من أحد يتسبَّب فيها أو يقع في حبائلها. 5.وحدها كانت الظلمة تملأ الكلَّ غير المحدود، لأن الأب والأم والابن عادوا واحدًا، والابن لم يكن قد استيقظ بعد من أجل العجلة الجديدة ومن أجل رحلته فيها. 6.والأرباب السبعة الأجلاء والحقائق السبعة كانت قد انعدمت [كفَّتْ عن الوجود]، والكون – ابن الضرورة – كان غارقًا في الغبطة العليا، لكي يختنق بما كان، ومع ذلك لم يكن. وكان العدم. 7.وعلل الوجود كانت قد أُزيلت؛ والظاهر الذي كان، والمستتر الكائن، كانا راقدين في اللاوجود الأزلي – الوجود الأحد. 8.وحده شكل الوجود الواحد كان منبسطًا بلا حدود، لانهائيًّا، بلا علَّة، غارقًا في نوم بلا أحلام؛ وكانت الحياة تنبض غير واعية في الفضاء الكلِّي، عبر ذلك الحضور الكلِّي الذي تدركه العينُ المنفتحة للنفس المطهَّرة. 9.ولكن، أين كانت النفس المطهَّرة حين كانت النفس الكلِّية المحيطة بالكون في الحق المطلق وكانت العجلة الكبرى بلا والدة؟ <تعليق>
نحن، إذن، أمام نصٍّ غامض؛ نصٍّ مغرق في القدم إلى حدٍّ نتجاوز من خلاله الزمان؛ نصٍّ يقول لنا إنه...
في مكان آخر من هذه الأرض، وفي زمان آخر لم يوجد، ربما، كان الإنسان، كما سبق وقرأنا، يحلم بالمطلق والعدم، باللازمان واللامكان؛
كان يتخيل الكمون، حيث كان كلُّ شيء ولم يكن؛
كان يتساءل عن طبيعة الزمن وعن البداية؛ ووحيٌ كان، من حيث لا يدري، يجيبه أن الزمان ليس سوى حلم ناتج عن تراكُم حالات وعيه؛
وكان يتساءل عن الوعي؛ ووعيه، كما كان يتلمَّس، كان، ربما، تلك اليقظة التي دفعتْه إلى التساؤل، ذلك الحنين اللامتناهي المحيط بكلِّ شيء، وتلك الإرادة التي جعلتْه يسعى إلى المعرفة التي أضحت مبرِّر وجوده؛
وكان يتساءل عن تلك المعرفة التي أضحتْ دربه إلى الغبطة، وعن طرقها السبع التي ستعيده من الوجود، أو لنقل من حالته الحالية، إلى العدم، إن لم نقل إلى حالته البدئية؛
وبعين قلبه، كان يرى أن هذه البداية كانت مطلقًا–عدمًا، كانت كمونًا. ولكن...
هل كان في وسعه فهم "المطلق" أو "العدم"؟ أو حتى فهم ما يعنيه "الكمون"؟
يقول الفيزيائي الكبير جون أ. ويلر:" كلُّ ما نعرف إنما ينبع من محيط لامتناهٍ من الطاقة التي تشبه في شكلها العدم..."، حيث، عند ذاك الجدار الذي دعوناه بـ"جدار بلانك"، وعند ذلك الزمان الذي حدَّده بلانك بـ -1034 من الثانية الأولى تتوقف حدود معارفنا – عند تخوم الميتافيزياء. ولكن...
عمَّ تتحدث فيزياؤنا التي عادت اليوم إلى الإقرار بما يتجاوزها؟
إنها تتحدث عن مفهوم جديد للفراغ، يدعى بـ"الفراغ الكوانتي". فالحقيقة هي أنه ليس في وسع الفيزياء – أية فيزياء – أن تتصور، بحكم طبيعتها، وجود فراغ مطلق، لا مادة فيه ولا طاقة. جل ما في وسع فيزيائنا الكوانتية تصوره، من خلال ما تفترضه توازن المادة، هو وجود طاقة كامنة في وسعها أن تتحول إلى مادة؛ كتلك الطاقة الدافعة لتلك الإلكترونات التي تبدو وكأنها تنبثق من العدم. ولكن التساؤل يبقى بلا جواب عند تجاوز هذه الحدود. والتساؤل الأساسي يبقى، وبإصرار يردِّد...
3
أين كان؟!...
حيث يتابع الكتاب التيبتي متسائلاً: 1.[...] أين كان البُناة، أين كان الأبناء النيِّرون للفجر الكَوْري؟ [كانوا] في الظلمة المجهولة لغبطتهم السماوية العليا. أما صانعو الشكل من اللاشكل – أصل العالم – أمِّ الآلهة والجوهر الأم، فكانوا راقدين في غبطة اللاوجود. 2.[...] أين كان الصمت؟ أين كانت الآذان الحاسَّة به؟ لا، لم يكن صمت ثمة ولا صوت؛ لا شيء إلا النَّفَس الأزلي المتواصل، الذي لا يعرف نفسه. 3.لم تكن الساعة قد حانت بعد؛ والشعاع لم يكن قد وَمَضَ بعدُ في البذرة؛ ولم تكن السِّدرة–الأم قد حبلت بعد. 4.لم يكن قلبُها قد انفتح بعدُ لكي يلجه الشعاع، فيسقط بذلك، كما الثلاثة في الأربعة، في حضن الوهم. 5.لم يكن الأبناء السبعة قد ولدوا بعدُ من نسيج النور. وحدها الظلمة كانت الأب–الأم، الجوهر–الأصل؛ والجوهر–الأصل كان في الظلمة. 6.هذان الاثنان هما البذرة، والبذرة واحدة. والكون كان ما يزال مستترًا في الفكرة الإلهية والرحم الإلهي. [...] <تعليق وتأمل>
فربما كان ما يختبئ خلف "جدار بلانك" هو شكل من أشكال الطاقة البدئية اللامتناهية. ربما كان ما يسود ويوجد قبل بدء الزمان، الذي نعرفه من خلال نسبيَّته، هو تلك اللانهاية، إن لم نقل ذلك الزمان الكلِّي الذي لا بداية له ولا نهاية. ولكن، ما معنى هذا كله؟!
لسنا ندري! وقطعًا، لن يكون في وسعنا أن ندري!
ومع هذا، نثابر في محاولتنا لفهم الأمور. وأداتنا الآن هي كتاب حكمة قديم: كتاب غريب من حيث تعبيراته ومعانيه، مثله في ذلك كمثل سائر كتب الحكمة القديمة. ونتوقف هنا قليلاً لنحاول بعض الشيء تلمُّس ما قد تعنيه بعض تلك التعبيرات المستعملة من معانٍ.
فـ"الوالدة الأزلية"، التي هي المسبِّب والأصل، قد تكون هي المادة البدئية؛ تلك التي كان يدعوها الهندوس بـمولابراكريتيMulaprakriti. وذلك الغيب المتجدد، ذلك العدم المطلق الذي عاد المسبِّب والأصل إليه لسبع أبديات، قد يكون، انطلاقًا من الميثولوجيا الهندوسية نفسها، ذلك العصر الكبير الذي يدعوه الهندوس بـ"المنفنترا" Manvantara، الذي مدته 910311040 سنة، أو لنقل مئة من "سني براهما"؛ ما قد يعني اللانهاية، حيث لم يكن يوجد أي زمان.
فالزمان، كما سبق وأشرنا، قد لا يكون سوى حالة من حالات وعينا، بين ماضٍ انقضى ومستقبل نحلم به، وحيث الحاضر، الذي هو الغالب فعلاً، لا وجود له في الواقع. فالوجود الكلِّي، الذي هو الوعي الكلِّي، كان غائبًا آنذاك في ذلك العدم، قبل أن يعاود الظهور من جديد حين تأزف ساعته، أي حين يعود فيغدو "ضرورة" من جديد.
لأن العدم المطلق – ذلك الغيب الذي ليس في وسعنا التعريف به، ذلك النَّفَس الأزلي المتواصل الذي لا يعرف نفسه – كان، كما جاء في الكتاب، راقدًا في غبطة اللاوجود. ولكن...
هل ما يقصده السِّفر التيبتي، حين يتكلم على ذلك النَّفَس الأزلي غير الواعي لذاته، هو ما ندعوه في لغاتنا الحديثة بـ"اللاوعي"؟
ونستذكر هنا ما قاله هيغل ذات يوم، متفكرًا في معضلة الحقيقة، أنه ما كان في وسع ما ندعوه باللاوعي أن يفعل ما فعل، أن يقوم بتلك المهمة العظمى، لو لم تكن غايته هي الوجود في حدِّ ذاته ولذاته. فإذا كان الوعي هو الغاية، عندئذٍ يكون ذاك الذي ندعوه "لاوعيًا مطلقًا" هو نفسه "مطلق الوعي".
لعلنا نعرِّف الماء بعد وصفه بالماء – ربما. ولكن، مع ذلك...
تبقى تلك الحقيقة المتمثلة بالوجود. ويبقى كلُّ ما سواها متجاوزًا فهمنا. حيث ليس في وسع المحدود، قطعًا، استيعاب ما لا حدود له بوسائطه العقلية، مهما بلغت. ولكن...
ربما تبقى إمكانية التواصل. والتواصل، كما نعلم، هو حالة صوفية!
ونتابع، من خلال ذلك السِّفر، في حال هي في الحقيقة حال تواصل، على الرغم مما قد تعكسه من عقلانية. وعقلانيته، ربما، هي التي وصفت الكون–الخليقة بـ"ابن الضرورة"؛ أي بتلك الحتمية التي كانت تنتظر ساعتها في قلب الكمون، بالبذرة المستورة في رحم الفكرة الإلهية.
4
الانفطار البدئي أو... الخليقة
ويتابع السِّفر التيبتي قائلاً: 1.[...] ويرتعش الاهتزاز الأخير للأبدية السابعة عبر اللاتناهي. وتنتفخ الأم، منبسطة من الداخل إلى الخارج، مثل برعم السِّدرة. 2.ويجتاح الاهتزاز كلَّ شيء، لامسًا بجناحه السريع الكونَ كلَّه والبذرةَ القابعة في الظلمة: الظلمة التي تتنفَّس فوق المياه الغافية للحياة. [...] 3.وتشع الظلمة نورًا، ويلقي النورُ بشعاع وحيد في الغور–الأم. ويخترق الشعاعُ البيضةَ البكر. ويجعل الشعاع البيضة الأزلية ترتعش، وتنبذ البذرةَ غير الأزلية، التي تتكثَّف مكوِّنةً بيضة العالم. 4.ثم تسقط الثلاثة في الأربعة. وتصير الماهية المشعة سبعةً في الداخل، وسبعة في الخارج. والبيضة المنيرة، التي هي ثلاثة في ذاتها، تتخثَّر، وتنتشر خثراتٌ في بياض اللبن عبر أغوار الأم، الجذر النامي في أعماق محيط الحياة. 5.ويبقى الجذر، والنور يبقى، والخثرات تبقى، ومع ذلك يبقى أب–أم الآلهة واحدًا. 6.وكان أصل الحياة في كلِّ قطرة من محيط الخلود، والمحيط كان نورًا مشعًّا، كان نارًا وحرارة وحركة. ثم تلاشت الظلمة ولم تعد موجودة؛ وتوارتْ في ماهيتها عينها، جسم النار والماء، أو الأب والأم. 7.فتأمَّل، أيها المريد، ابنَ الاثنين المشع، المجدَ السَّنيَّ الذي لا نظير له: الفضاء المشرق، ابن الفضاء المظلم، الطالع من أعماق المياه المظلمة العظيمة. إنه أب–أم الآلهة الصغرى، الـ***. إنه يتلألأ كالشمس؛ إنه تنين الحكمة الإلهي الوهَّاج؛ الواحد أربعة، والأربعة تتخذ لنفسها الثلاثة، والاتحاد يلد السبعة، وفيها السبعة التي تصير ثلاثين (أو الجحافل والآلاف المؤلَّفة). تأمَّلْ فيه يرفع الحجاب، وينشره من الشرق إلى الغرب. إنه يحجب الأعلى، ويترك الأسفل ظاهرًا بوصفه الوهم الأكبر. وهو يحدِّد مواقع الكائنات البهية، ويحوِّل الأعلى إلى بحر من نار لا ساحل له، ويحوِّل الجزء المتجلِّي إلى مياه عظيمة. 8.أين كانت البذرة وأين أمست الظلمة الآن؟ أين روح اللهب المتقد في مصباحك، يا أيها المريد؟ إنما ذاك هو البذرة، وذاك هو النور، الابن الأبيض الساطع للأب الأسود المستتر. 9.النور هو اللهب البارد، واللهب هو النار، والنار تولِّد الحرارة، التي تستحيل ماءً: ماء الحياة في الأم الكبرى. 10.ويحوك الأب–الأم نسيجًا يتَّصل طرفُه الأعلى بالروح – نور الظلمة الواحدة – وطرفه الأسفل بنهايتها الظليلة، المادة؛ وهذا النسيج هو الكون المحوك، من الجوهرين اللذين صارا جوهرًا واحدًا، هو الجوهر–الأم. 11.إنه ينبسط حين يعتليه نَفَسُ النار؛ وينقبض حين يلامِسَه نَفَسُ الأم. وحينئذٍ ينفصل الأبناء ويتباعدون، ليعودوا إلى رحم أمِّهم في نهاية "اليوم العظيم"، ويصيروا واحدًا وإياها من جديد؛ فحين يبترد، يصير مشعًّا، وينبسط الأبناء وينقبضون عبر ذواتهم وقلوبهم، فيعانقون اللانهاية. 12.وعندئذٍ يبعث الجوهر–الأم بالدوامة النارية لتُصلِّب الذرات – وكلٌّ منها جزء من النسيج. وإذ تعكس – كالمرآة – "الربَّ الواجب الوجود بذاته"، فإن كلاً منها يصبح بدوره عالَمًا. <تعليق من منطلق نظرتنا المادية إلى الأمور>
في العام 1951، أعلنت الكنيسة الكاثوليكية أن نظرية الانفطار البدئي، أو الـBig Bang، لا تتعارض مع ما تورِدُه الكتب المقدسة رمزًا حول الخليقة. ونظرية الانفطار البدئي هذه هي أكثر النظريات التي تفسِّر نشوء الكون شيوعًا وقبولاً اليوم. فما الذي تفترضه هذه النظرية؟
تنطلق نظرية الانفطار البدئي، كما يصفها ستيفن هوكنغ، من فرضيات الفيزيائي فريدمان التي تقول إنه، في لحظة معينة من الماضي، قبل ما يقارب الـ20 مليار سنة، حصلت نقطة انقطاع un point de rupture: نقطة توصلت إليها الحسابات والتحليلات التي تقول إن المسافة بين المجرَّات (التي نفترضها هنا مجازًا) كانت عند ذاك تُقارِب الصفر. وبالتالي، كانت كثافة الكون والتابع المعبِّر عن الزمان–المسافة عند ذاك لامتناهيين.
وهذه النظرية، يؤكدها نسبيًّا عمر النجوم؛ كما يؤكدها، حتى الساعة، تباعُد المجرات بعضها عن بعض؛ وأيضًا وخاصةً، تؤكدها تلك المستحاثات الشعاعية التي تمَّ اكتشافها في العام 1965 في مختلف أنحاء الكون والمشابهة لتلك التي تبثها الأجسام عند درجة حرارة 3 تحت الصفر المطلق، وهي ما تبقَّى اليوم مما انطلق من حرارة رافقت لحظات الكون الأولى. ونستعرض، بإيجاز شديد، ما تفترضه هذه النظرية للحظات الكون الأولى...
عند الجزء -1053 من الثانية الأولى، تمايزت القوة النووية الكبرى، تلك التي تؤمِّن تماسُك النواة الذرية، عن القوة الكهرضعيفة (أي تلك الناتجة عن انصهار القوة الكهرمغناطيسية والقوة المتحلِّلة المشعة)؛ وكان قطر الكون قد أضحى 300 متر.
وعند الجزء -1011 من الثانية الأولى، انشطرت القوة الكهربائية الضعيفة إلى قوتين متمايزتين هما: ما نعرِّفه بتداخل القوة الكهرمغناطيسية والقوة الضعيفة، فتمايزت الفوتونات عن الكواركات والغلوونات واللبتونات، وتشكَّلتْ القوى الأساسية الأربع.
ويستمر التمايز: فعند الأجزاء ما بين الـ-1011 و-105 من الثانية الأولى اتحدت الكواركات مع النترونات والبروتونات، وبدأت مكِّوناتُ كوننا الحالي بالتشكُّل. ويستمر الكون في التمدد. ولكن...
هل أضحت فرضية الانفطار البدئي حقيقة علمية غير قابلة للنقاش؟ الجواب هو لا... لأن تلك النظرية التي تفترض تمدُّد المادة وتشكُّل الكون من نقطة تُقارِب العدم إنما تجد ما يقابلها ويوازيها في الواقع من خلال ما يقدِّمه العلماء من تفسيرات للثقوب السوداء، حيث تتقلص المادة، في المقابل، وتعود إلى ما يشبه العدم.
كذلك، في نقاشه لنظرية الانفطار البدئي، يتحدث ستيفن هوكنغ في كتابه المبسَّط قصة قصيرة للزمن عن تلك المحاولة النظرية التي قام بها في العام 1948 العلماء هرمان بوندي وتوماس غولد من النمسا وفريد هويل من إنكلترا، التي سمِّيت بنظرية "الكون المستقر". وهذه النظرية تستند إلى فكرة تقول إنه مع تباعُد المجرَّات بعضها عن بعض، تتشكَّل تشكلاً دائمًا ومستمرًّا مجرَّاتٌ جديدة، مما يجعل الكون لا يتغير عمليًّا. لكن هذه النظرية دُحِضَتْ وأُهْمِلَتْ من بعدُ.
ثم كانت محاولة أخرى قام بها العالمان الروسيان ليفشيتس وخلاتنكوف في العام 1963، اللذين رفضا تلك الحالة الخاصة من نماذج فريدمان، وافترضا، عوضًا عن الانفطار البدئي، وجود حالات تقلُّص وتمدُّد للكون الذي نحيا فيه، ثم تراجعا في العام 1970 عما ذهبا إليه. ولكن أهمية ما تقدَّما به يمكن تلخيصه في تلك الفرضية التي تقول إن الكون يمكن أن يكون ناجمًا عن حالات خاصة كالانفطار البدئي – إن صحَّتْ نظريةُ النسبية العامة. وتلك النظرية، كما يقول هوكنغ، غير كاملة لأنه ليس في وسعها أن تصف لنا كيف بدأ الكون، ولأنه، عند هذه اللحظة بالذات – عند لحظة البدء، كما عند لحظة النهاية المتمثلة بالثقوب السوداء – تنهار جميع النظريات، كما قال محقًّا ستيفن هوكنغ. ولا يبقى أمامنا سوى العودة إلى... <تأملاتنا الميتافيزيائية>
ونمعن النظر من جديد فيما أورده كتاب حكمتنا التيبتي من مفهوم للخليقة Cosmogénèse، من خلال ما سبق أن عرضناه.
فنسجل كيف تقسم الفلسفة البوذية تلك اللانهاية الواحدة إلى قسمين: القسم الأول غير مقيد، واحد وشامل، هو ما يدعونه بـكالاKala؛ والقسم الثاني، ذلك المقيَّد، الذي يقصده كتابُنا حين يتحدث عن الأبدية السابعة، وتدعوه فلسفتُهم بـكانداكالاKandakala. وأيضًا...
نسجل، من خلال ذاك السِّفر، ذلك التصور الرائع للمسيرة الأزلية للواحد الأحد، بين ما يُفترَض أنه حالات يتناوب من خلالها اللاوجود والوجود: حيث حالات اللاوجود هي ما يدعونه بـ"ليالي براهما" – تلك "الليالي" حيث يرقد الكمون الإلهي. وأيضًا...
من هذا اللاوجود، من تلك الظلمة اللامتناهية التي يعبَّر عنها أيضًا، كما في كتب حكمة قديمة أخرى، بـ"المياه النائمة"، كانت البداية.
وتلك البداية، كما يصوِّرها سِفْرُنا، كانت تلاقح النور، الذي هو "الفكرة الإلهية" التي وصفها إنجيل يوحنا بـ"الكلمة"، مع ذلك الكمون الذي أضحى "البيضة البكر". ونسجِّل هاهنا أن هذه التصورات والتعبيرات عينها تتكرَّر في الكتب المقدسة للشعوب الأخرى. ونسجل أيضًا أن هذا التصور قد يكون، على صعيد ماديتنا، شكلاً من الانفطار البدئي أو الـBig Bang، كما قد يكون ذلك العدم أو اللاوجود الذي سبقه شكلاً من الثقوب السوداء.
أما وقد بدأت الخليقة فإن ما تورِدُه السُّوَر حول "سقوط الثلاثة في الأربعة" إنما هو تعبير عن سقوط الروح في المادة، إن لم نقل اختراق ذلك النور (الذي هو الروح الإلهية) لخليقتها المتجسِّمة. فالثلاثة، بحسب جميع كتب الحكمة القديمة (ومن ضمنها كتابنا التيبتي)، هي التعبير الرمزي العددي للروح؛ كما أن الأربعة هي التعبير عن المادة. ومجموعهما هو ذلك العدد السابع الصحيح والمقدس عند الأقدمين (3 + 4 = 7).
وكان تطور الخليقة التي تكاثرت فأضحت عددًا (أو ثلاثين كما عبَّرت السُّوَر)؛ وكانت بداية تشكُّل الكون من خلال تلك الصورة الشاعرية التي عرضناها هي عينها ما تعبِّر عنه لغتُنا العلمية القاسية والجافة، حين تتحدث عن دقائق الكون الأولى. تلك الخليقة التي، بحسب كتاب الحكمة التيبتي، تعكس، كالمرآة، ذلك "الرب الواجب الوجود بذاته". ونتابع محاولتنا الساذجة لربط العلم بالأسطورة...
وتستمر الخليقة، كما نتلمَّسها، من خلال علومنا، فيستمر كونُنا في التمدد، وتنقضي مليارات السنين، حيث...
تقول علومنا إنه قبل حوالى خمسة مليارات سنة من الآن، تشكَّلتْ مجموعتُنا الشمسية. وكانت الأرض ما تزال – وقد انقضى مليار سنة على تشكُّل الشمس – قد ابتردت إلى حدٍّ كبير؛ ولكنها لم تكن بعدُ قد أضحت صالحة لاحتضان أيِّ شكل من أشكال الحياة. ولكن، وسط تلك المحيطات من الحمم التي كانت تتفاعل على سطحها، بدأت تتشكل أولى القارات. وكانت الحمم الآخذة بالتجمد تبث كميات هائلة من الغازات التي كانت تشكِّل الغلاف الجوي للأرض آنذاك – ذلك المزيج الكثيف من الهدروجين والميتان والنشادر والماء وغاز الفحم.
وعلى الرغم من هذا، مع استمرار التبرُّد، كان تكثُّف الماء في قلب الغلاف الجوي. وكانت أمطار هائلة أدت إلى تشكُّل تلك المحيطات التي أضحت تغطِّي ثلاثة أرباع سطح كوكبنا – كوكبنا الذي كانت أجواؤه وجزيئاته تتعرض لذلك القذف الهائل من الأشعة فوق البنفسجية التي كانت تبثُّها الشمس. وأيضًا، كانت تتعرَّض لتلك البروق والرعود المرعبة. فكانت سلاسل من التفاعلات لا نهاية لها. وكان تشكُّل أولى المواد الأولية وأولى الحموض الأمينية – تلك الأشكال البدائية من الحياة التي أوصلتْنا من خلال تطورها إلى...
5
نشأة الإنسان
2.وقالت الأرض: "أيا ربَّ الوجه المشعِّ؛ بيتي خاوٍ. [...] فأرسل أبناء السبعة ليعمروا هذه العجلة. لقد أرسلتَ أبناءك السبعة إلى ربِّ الحكمة. سبع مرات رآك تتقرَّب إليه، وسبع مرات أُخَر شَعَرَ بك. لقد حرَّمتَ على عبادك – الحلقات الصغرى – التقاطَ نورك وحرارتك، واستقبالَ رحمتك الواسعة وهي في طريقها. فابعث الآن إلى أَمَتِك مثل ذلك." 3.فقال ربُّ الوجه المشع: "سأبعث إليكِ بالنار ساعة يبدأ عملُكِ. ارفعي صوتك إلى عوالم أخرى؛ التمسي من والدك – ربِّ السِّدرة – أبناءه. [...] سيكون شعبك تحت حُكْم الآباء؛ وسيكون بَشَرُك مائتين. أما بَشَرُ ربِّ الحكمة – لا أبناء القمر – فخالدون. كفِّي عن الشكوى. فجلودك السبعة مازالت عليكِ. [...] مازلتِ غير مستعدة؛ وبَشَرُك غير مستعدين." 4.بعد ثلاث مخضات عظيمة رَمَتِ [الأرض] عنها [جلودها] الثلاثة القديمة ولبست سبعة جلود جديدة، ثم استوت في [جلدها] الأول. 5.ودارت العجلة ثلاثين كورًا أُخَر. وبنت أشكالاًً: حجارة طرية قَسَت، ونباتات قاسية طريت. [بَنَتِ] الظاهر من الباطن، حشراتٍ وحُيَيْوينات. وكلما اجتاحت [هذه] الأمَّ نفضتْها عن ظهرها. [...] وبعد ثلاثين كورًا استدارت. استلقتْ على ظهرها؛ على جنبها. [...] وما كانت لتدعو أبناء السماء، وما كانت لتسأل أيًّا من أبناء الحكمة. صوَّرتْ من رحمها هي. ولفظت بشرًا مائيين، رهيبين، أشرارًا. <تعليق>
والحق أقول، أيها الإخوة، أني في كلِّ مرة أقرأ كتابًا من كتب الحكمة القديمة، أقف مذهولاً أمام حقيقة جديدة لم أكن متنبهًا إليها من قبل. وأتأمل في هذا النص الذي يقدِّمه لنا الكتاب التيبتي، يحدِّثنا، فيما سبق وأوردناه، بلغته الشاعرية وتعبيراته الغامضة، عن نشوء الحياة.
وما لفت انتباهي هنا، وأنا أقرأ هذا النص للمرة الأخيرة عند كتابتي لهذه التأملات، أنه، قبل آلاف السنين من الآن، في عصور نَصِفُها اليوم بالـ"همجية"، كان بشرٌ يتحدثون، من خلال وصفهم لتلك الـ"الحجارة [الـ]ـطرية [التي] قَسَتْ، و[الـ]ـنباتات [الـ]ـقاسية [التي] طريت، [وذلك] الظاهر [الذي بُنِيَ] من الباطن، [فأنجب تلك الـ]ـحشرات و[الـ]ـحييوينات، [التي] كلما اجتاحت هذه الأم [ويقصد الأرض] نفضتْها عن ظهرها..." – [يتحدثون] عن شكل معين من التطور الذي لم تدركه علومنا حتى ما قبل 150 سنة. كانوا يتحدثون – بلغة قد تكون أدق من لغتنا العلمية المعاصرة – عن نشوء الحياة من قلب الجماد.
ونتساءل اليوم عن ماهية الحياة – عن تلك الماهية التي قد لا يُعرَّف بها. ولكننا، تمييزًا لذلك العصفور الواقف على شرفة النافذة عن تلك الصخرة، نطلق على الأول تعبير "حي" وننعت الثانية بالـ"جماد"...
فنحاول، من خلال فيزيائنا، تلمُّس هذه الظاهرة، ونكاد ألا نتلمَّس أيَّ فارق بين الاثنين (أقصد بين الحيِّ والجماد) على الصعيد النووي والذري. ولكن، ما أن نرتقي إلى المستوى الجزيئي molecular حتى سرعان ما نتلمَّس ذلك الفارق الكامن بين الاثنين، الذي يمكن التعبير عنه، من حيث العمق، بالقول إن الجسم الحي هو، من حيث تركيب جزيئاته، أكثر تنظيمًا من الآخر، إن لم نقل أغنى معلوماتيًّا. ولكن، هل يكفي هذا لتعريف الحياة؟ وهل كان ذلك التطور الذي حصل – ذلك التراكم المعلوماتي – نتيجة للمصادفة؟
كلُّ الدلائل تشير اليوم أنه لم تكن هناك أية مصادفة: فالحياة، ككمون، كانت موجودة قطعًا في قلب ما ندعوه جمادًا، أيًا كان هذا الجماد. وهذا ما أثبته حينئذٍ عالم الكيمياء الكبير، الحائز على جائزة نوبل، إيليا بريغوجين.
وقصة الحياة، كما نتلمَّسها من خلال فيزيائنا، و/أو من خلال كتاب الحكمة التيبتي، هي قصة صيرورة وارتقاء من نظام أدنى إلى آخر أعلى؛ أو على الأقل، هذا ما يبدو لنا.
ونستذكر هنا، فيما يتعلق بتطور الأنواع، ومن خلالها (ومعها تطور الإنسان)، ما قاله ذات يوم العالم واللاهوتي تِلار دُهْ شاردان: في وسعنا أن نتأمل الآن شجرة الحياة وهي تنتصب أمامنا. إنها شجرة غريبة – هذا ما لا شكَّ فيه. وفي وسعنا أن نسميها شجرة سلبية négative لسبب بسيط هو أن أغصانها وجذعها، على عكس ما يحدث مع أشجار غاباتنا الكبرى، تكشف عن فجوات تتسع على الدوام كلما انحدرنا نزولاً. إنها شجرة جامدة تقريبًا، كما تبدو لنا من خلال براعمها التي تسعى إلى التفتح. ومع أننا لا نعرف الكثير عن هذه البراعم، التي هي الآن نصف متفتحة، فإننا نلاحظ أن الشجرة قد رسمت بوضوح أوراقها المنضَّدة بعضها فوق بعض، التي تمثل مختلف الأنواع الحية. إنها تنتصب شامخة أمامنا لتغطي، من خلال فروعها الرئيسية وأبعادها الهائلة، الأرضَ كلَّها. ولا بدَّ لنا، قبل التعمق في سرِّها، من إلقاء نظرة فاحصة عليها للتعرف على المغزى من شهادتها.
ويتابع تِلار دُهْ شاردان يقول: لا أحد يشك في الأصل الدائري لسديم لولبي، وفي الزيادة المتدرجة للجزيئات في قلب بلورة أو صاعدة، أو في تصلُّب الحزم الخشبية حول محور ساق الشجرة. فتلك الترتيبات الهندسية، التي تبدو لنا مستقرة كلَّ الاستقرار من حيث الظاهر، هي الأثر–العلامة والبرهان الذي لا يُدحَض على الحركة المجردة kinematics التي تجعل من غير الممكن لمن يتأملها التردد، ولو للحظة واحدة، في الإقرار بالأصول التطورية للحياة على أرضنا. ... فكيفما نظرنا، من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأكبر إلى الأصغر، نجد بنية مرئية واحدة نؤكد على تصميمها الذي يقوِّيه ترتيب الظلال والفراغات ويطيله (وليس في قولنا هذا فرضية!) – تنظيم تلقائي من حيث ظاهره للعناصر التي لم نشاهدها من قبل والتي اكتشفها هذا العصر. ويجد كلُّ شكل اكتُشِفَ حديثًا مكانه الطبيعي. ... وتكون الحياة، مثل جميع الأشكال في كون يثبت فيه الزمان كبعد رابع حجمي وبعد تطوري للطبيعة. أو لنقل إنها، من الوجهة التاريخية والمادية، تمثل عاملاً مساعدًا Î، يحدِّد مركز كلِّ شيء في المكان، وفي الزمان، وفي الشكل.
ونعود إلى سُوَرِنا لنتابع أسطورة نشأة وتطور الإنسان من خلال هذه الـ...
6
مقتطفات
10.وعندما قُضِيَ عليهم، أمستِ الأرض–الأم عارية. وطلبتْ أن تُجَفَّف. 11.وجاء ربُّ الأرباب. فَصَلَ المياه عن جسم [الأرض]، فكانت السماء من فوق، السماء الأولى. 19.وكانت الذرية الثانية هي الثمرة بالبرعمة والانبساط، [الذرية] اللاجنسية من التي لا جنس لها. كذا، أيها المريد، وُلدت الذرية الثانية. 21.وعندما شاخت الذرية، امتزجت المياهُ القديمة بالمياه الحديثة. وعندما تعكَّرتْ قطراتُها، تلاشتْ وتوارتْ في التيار الجديد، تيارِ الحياة الساخن. وصار ظاهر الأولى باطن الثانية. وأضحى الجناحُ القديم الظلَّ الجديد، وظلَّ الجناح. 22.عندئذٍ طوَّرتْ [الذرية] الثانية المولودين من البيضة: [الذرية] الثالثة. ونَضَحَ العَرَقُ، ونَمَتْ قطراتُه، وتصلَّبتُ القطرات واستدارت. أدفأتْها الشمس؛ والقمر برَّدها وشكَّلها؛ وغذَّتْها الريحُ حتى أينعتْ. وظلَّلتْ البجعةُ البيضاء [الآتية] من القبة النجمية القطرةَ الكبيرة – بيضةَ الذرية الآتية، الإنسانَ–البجعةَ من [الذرية] الثالثة المتأخرة: ذكر–أنثى أولاً، ثم رجل وامرأة. 27.وأمست الذرية الثالثة مركبةَ أرباب الحكمة. وخلقتْ "أبناءَ الإرادة واليوغا". بالقدرة السحرية خلقتْهم، الآباءَ القدُّوسين، أجدادَ الكُمَّل. 28.ومن قطرات العَرَق، من بقايا الجوهر – المادةِ [المستخلَصة] من الأجسام الميتة للبشر والحيوان من العجلة السابقة – ومن التراب المهمَل، وُلدت الحيوانات الأولى. 29.حيوانات ذوات عظام، تنانين الأغوار، وأفاعٍ طائرة أضيفت إلى الزواحف. والزواحف على الأرض نَبَتَتْ لها أجنحة؛ والمائيات ذوات الأعناق الطويلة أمست والدة طيور الجو. 30.وإبان الذرية الثالثة، نَمَتِ الحيوانات عديمات العظام وتغيرت: صارت حيوانات ذوات عظام، وتصلَّبتْ ظلالُها. 31.وانفصلت الحيوانات أولاً. وجعلت تتكاثر. وانفصل الإنسان المزدوج أيضًا. قال: "فلنتكاثر مثلها؛ فلنتجامَع وننسل مخلوقات." وهكذا كان. 35.عندئذٍ صار البشر أجمعين موهوبين عقلاً. وأدركوا خطيئة عديمي العقل. 36.وأصبحت الذرية الرابعة ناطقة. 37.وصار الواحد اثنين؛ وكذلك الأحياء والزواحف التي كانت ما تزال "أحدية" [خنثى] كلُّها، أسماكًا طائرة وأفاعيَ قوقعية الرأس عملاقة، [صارتْ اثنينية]. 38.هكذا، مثنى مثنى، في المناطق السبع، وَلَدتْ الذريةُ الثالثة بَشَرَ الذرية الرابعة؛ وأمسى الآلهةُ غير إلهيين، والأرباب عديمي الربوبية. <تعليق وتأمل>
ونكاد لا نجد أسلوبًا شاعريًّا أفضل للتعبير عن نشوء الأنواع وارتقائها، ذلك الذي عبَّر عنه في عصرنا المادي المعاصر تشارلز داروِن قبل 170 عامًا، وعاد إلى روحه في أواسط القرن الماضي مع تِلار دُهْ شاردان. فالحكمة القديمة، من خلال كتبها عمومًا، ومن خلال ما أوردناه من مقتطفات من كتابنا التيبتي تحديدًا، تؤكد لكلِّ من يتعمق فيها قليلاً أنها تنطلق من نظرة تطورية إلى الكون والحياة.
لهذا السبب، ربما، كان أبناؤها مضطهدين من قبل الجهالة السائدة على مرِّ العصور. ولهذا أيضًا، كانت معارفهم سرَّانية على مرِّ العصور. ولكن...
ما يميِّز كتابنا هذا عن سواه هو، ربما، نظرته التي تبدو أشمل من خلال تفاصيله؛ مما يجعله أقرب إلى ما نفترضه مجازًا بالكتاب–الأم (أم الكتاب؟) – الأصل الأول لجميع الكتب.
فهو، في حديثه عن نشأة الإنسان، يحدِّثنا عن تطور وارتقاء أشكال الحياة الأخرى التي رافقتْ تطوره، من إنسانية أولى خرجت من المياه وقَضَتْ؛ إلى تلك الثانية التي كانت ثنائية الجنس، كما يقول الكتاب التيبتي؛ فتلك الثالثة التي ولدت من "العَرَق"، فتمايزتْ من حيث الجنس وتطورت، فولدت تلك الرابعة التي ملكت العقل والنطق.
يقول تِلار دُهْ شاردان، متكلمًا على نشأة الإنسان وارتقائه: أصحاب المذاهب الروحانية على حق عندما يدافعون بشدة عن تعالي transcendance الإنسان عن الطبيعة بأسرها. ولا يخطئ الماديون عندما يقولون إن الإنسان هو درجة أبعد في سلسلة الأشكال الحيوانية. وفي هذه الحالة، كما في حالات عديدة، يُحَلُّ التناقضُ بين المنطقين المتناقضين من خلال مراعاة ذلك الجانب الأساسي الذي يقول إن تبدلاً جوهريًّا قد حصل. فمن الخلية إلى الحيوان المفكر، ومن الذرة atomeإلى الخلية، تستمر العملية نفسها والتركيز النفسي نفسه في الاتجاه نفسه؛ مما يؤدي، بسبب استمرارية العملية من وجهة نظر الفيزياء، إلى حدوث قفزات نوعية معينه، تبدو وكأنها فجائية، تكون نتيجتها حصول تحول في الموضوع. ... وفي الحقيقة، فإن التحول الذي قاد الإنسان في النهاية كان، من وجهة نظر عضوية، يعتمد على تطور يؤدي إلى دماغ أفضل.
ويتابع تِلار دو شاردان قائلاً: ... لقد أتى الإنسان إلى العالم في صمت. ولكنه في الواقع سار بنعومة شديدة، كما تبيِّن لنا تلك الأدوات الحجرية التي نلقاها من آثاره على امتداد العالم القديم، بدءًا من رأس الرجاء الصالح وحتى جدار بكين... وقد عاش كمجموعات وامتدت طفولته آلاف مؤلَّفة من السنين.
فهل كان تطور الإنسانية إبان طفولتها هو ما قصده كتابنا التيبتي، حين تحدث عن إنسانيات سابقة لإنسانيتنا الحالية، قَضَتْ في أثناء مسيرتها؟
وأذكِّر القارئ الكريم هاهنا – للمناسبة – أني سبق أن تحدثت في مقالة سابقة بعنوان "القارة الضائعة" عن أطلنطس، حيث أشرت، استنادًا إلى نفس المصدر، إلى وجود إنسانية سبقتْ إنسانيتنا الحالية، ثم زالت حين تجبَّرتْ، ولم يبقَ لنا منها سوى تلك الأساطير التي تتحدث عنها ويرفضها عقلنا العلموي المتشكِّك.
ومن حقِّ عقلنا أن يكون متشككًا طبعًا؛ خاصة وأن علومنا ومعارفنا المعاصرة لم تحدِّثنا من خلال نظرية ارتقاء الأنواع عن تلك الذريات البشرية التي توردها كتب الحكمة القديمة؛ مما يدفع البعض إلى رفض كلِّ ما تورده تلك الكتب، جملة وتفصيلاً، وتصنيفه كخرافات. ولكن...
يبقى شيء أساسي، محيِّر وملفت للنظر، يتحدث، من خلال ما عرضناه، عن حال كمون تشبه العدم، وعن نقطة انقطاع تشبه إلى حدٍّ كبير انفطارنا البدئي، وعن نشوء الأكوان وتطورها، وعن نشوء عالمنا (أقصد مجموعتنا الشمسية) وتطوره؛ وعن نشوء الحياة والإنسان وارتقائه إلى ما هو عليه اليوم.
وأتفكَّر أن هذا الكتاب المغرق في القدم، الذي عمره آلاف السنين، قد كُتِبَ في عصر كانت تسوده الجهالة والظلامية المطلقة، كما تفترض نظرياتنا المعاصرة! ونتفكر أن هذا الكتاب، كما رأينا، إنما يدلِّل على مستوى رفيع جدًّا من المعرفة والإحساس الشاعري، مما يتعارض قطعًا مع ما نفترضه لإنسانيتنا الغابرة من همجية. فمن أين أتت هذه المعرفة؟
وأتفكَّر أنه ليس في وسعنا قطعًا، من خلال معارفنا المتواضعة، الإجابة على هذا التساؤل. ولكن هذا لا يمنع أن التساؤل يبقى، على الرغم من كلِّ شيء، قائمًا ومحيرًا، يردِّد: من أين جاءت هذه المعرفة؟ أمِن إنسانية سبقت؟ أم من عالم موازٍ؟ أم من الاثنين معًا؟
وكتابنا التيبتي يحدثنا، من خلال عرضه لنشأة الإنسان، عن تصور طريف لبشرية "مَضَتْ"، نورده هاهنا، وقد شارفنا على...
7
النهاية...
40.إذ ذاك تطاولتْ [الذرية] الرابعة غرورًا. وقيل: "نحن الملوك، نحن الآلهة." 41.واتخذوا نساءً حسنات المرأى. زوجات من عديمي العقل، ضيِّقي الرأس. ونسلوا مُسوخًا: شياطين شريرة، ذكورًا وإناثًا، وكذلك أبالسة، إناثًا ناقصات العقل. 42.وابتنوا هياكل للجسم البشري. وتعبَّدوا للرجال وللنساء. عندئذٍ كفَّتِ العين الثالثة عن العمل. 43.وبنوا مدنًا ضخمة. بنوها [مستعملين] طينات ومعادن نادرة، ومن النيران المتقيَّأة ومن حجر الجبال الأبيض والحجر الأسود، نحتوا صورَهم على مقاسهم وصورتهم، وتعبَّدوا لها. 44.بنوا أصنامًا عظيمة بارتفاع تسعة ياتي [ثمانية أمتار]، بطول أجسامهم. كانت نيران باطنة قد أبادت أرض آبائهم. والمياهُ هدَّدت [الذرية] الرابعة. 45.وجاءت المياه العظيمة الأولى. وابتلعت الجزر السبع العظيمة. 46.ونجا القديسون، بينما هَلَكَ غير القديسين – ومعهم [هلكتْ] غالبية الحيوانات الضخمة، التي وُلدت من عَرَق الأرض. 48.وبقيت [الذرية] الخامسة المولودة من السلالة المقدسة؛ وحَكَمَها الملوك الإلهيون الأوائل. 49.[الأفاعي] الذين عاودوا النزول، وسالَموا [الذرية] الخامسة، وعلَّموها وثقَّفوها. [...]
خاتمة
وأفكر أن الكتاب التيبتي كان فعلاً، من خلال ما عرضناه أخيرًا، يتحدث عن بشرية مضت، ليست هي بشريتنا الحالية. فنحن لم نُصَبْ بعدُ تمامًا بالغرور من خلال ما أنجزناه؛ ونحن لم ندَّعِ تمامًا بعد المُلك والألوهية؛ ونحن لم نَصِرْ تمامًا بعدُ عبيدًا لملذاتنا، فنبحث دائمًا (مثلاً وليس حصرًا) عن طرف آخر جميل الشكل، فارغ الرأس، عديم القلب؛ ونحن لم ننجب قطعًا مسوخًا ووحوشًا؛ ونحن لم نستعمل القنبلة الذرِّية حتى اليوم إلا مرتين؛ ونحن لم نقضِ بعدُ على بيئتنا تمامًا؛ ونحن لم نعبد المادة جميعًا، حيث مازال بيننا بعض الشواذ – كلا، نحن لسنا تمامًا كهؤلاء الذين تحدث عنهم في زمانه الشيخ الأكبر حين قال:
إلا وربطه بحبِّ الدرهم
وما منهم أحدٌ أحبَّ إلهَه
كلا، نحن لسنا من وصفتْهم الأسطورةُ حين تحدثتْ عن تلك البشرية التي قَضَتْ. ولكننا، مع هذا، نقرأ بعضًا من أنفسنا، ونتلمَّس، ربما، احتمالاً لمصيرنا، من خلال ما أوْرَدَه كتابُنا التيبتي عن تلك البشرية المفترضة التي قَضَتْ بسببٍ من جهالتها. كما نتلمَّس بعضًا من أنفسنا حين نقرأ بعضًا مما جاء على لسان الحقِّ في الكتاب الكريم يقول أنْ "ألهاكم التكاثُر حتى زرتم المقابر". فنحن اليوم تسودنا الجهالة. لذلك، نحن اليوم أيضًا نتخوف من سوء المصير. ولكن...
لم لا نقلب الاتجاه قليلاً، فننظر إلى الأمور من وجهة نظر أخرى؟ كتلك التي تحدث عنها إدغار موران مثلاً حين قال: نحن موجودون في قلب الصيرورة، وتلك الصيرورة تتضمن الماضي والحاضر والمستقبل. فكلُّ شخص يعيش في الحقيقة عدة حيوات: يعيش حياته الخاصة، وحياة من ينتمون إليه، وحياة المجتمع، والإنسانية، وحياة الحياة... إن كلاً منَّا يعيش كي يحافظ على الماضي ثم، من خلال الحاضر، كي يلد المستقبل. "فالحياة والطبيعة،" كما عبَّر تِلار دُهْ شاردان، "لا يمكن لهما أن تكونا مغلقتين على متطلباتنا المستقبلية [... ولا] الفكر، الذي هو ثمرة ملايين السنين، يمكن له أن يولد مختنقًا في كون تافه ومجهض لذاته." عندئذٍ، في وسعنا أن نتأكد من "... أنه يوجد أمامنا [دائمًا]، بشكل أو بآخر، وبشكل جماعي [أي كإنسانية]، ليس فقط استمرارية وإنما أيضًا بقاء.
لذلك، فإن القضية – كلَّ القضية – كانت بالأمس، مثلما هي حالها اليوم، في أن نرتقي وأن نتفهم تلك الحقيقة التي (على لسان تلار دُه شاردان أيضًا) تقول: من أجل الوصول إلى ذلك الشكل الأعلى من الوجود، يجب علينا التطلع والسير على تلك الدروب، حيث تتناسق إلى الحدِّ الأقصى خطوطُ تطورنا.
*** *** ***
المراجع
1.الكتاب المقدس (العهدان القديم والجديد)
2.القرآن الكريم
3.الفتوحات المكية، محيي الدين بن عربي
4.ظاهرة الإنسان، الأب تِلار دُهْ شاردان (بترجمة الأستاذ ندره اليازجي)
5.La Doctrine Secrète, H.P. Blavatsky, tomes 1 et 3