نحن في زمن لا يعرف فيه الانسان وجهه او قفاه وقالوا نحن في عصر لا يعرف فيه الانسان رأسه من رجليه أو لايدري فيه الانسان شيئا عن نفسه.. وربما كانت النفس صعبة ومعقدة ولذلك فقليلون جدا من الناس الذين يستطيعون أن يلمسوا أعماق النفس أو أغوارها.. وعندما طلب سقراط فيلسوف الاغريق من الناس ان يعرفوا أنفسهم, فقد طلب منهم شيئا صعبا.. وعندما طلب إليهم ان يعرفوا أنفسهم بأنفسهم, طلب أصعب ما في قدرة الانسان..
وقالوا : إن الانسان لكي يري وجهه في حاجة إلي مرآة واحدة, وإذا أراد أن يري قفاه, فهو في حاجة إلي اثنتين, فهل صحيح ان الانسان في حاجة إلي أن يري أو يعرف أو يفهم كل شيء عن نفسه وجسمه ؟!
بل الانسان لا يعرف بوضوح جسمه.. مع أن الجسم أوضح وأبرز من النفس أو من العقل أو من الوجدان.. حتي ان هذا الشيء الطويل العريض من لحم ودم وعظم وعضلات وأعصاب لايعرفه بوضوح!!..
وهناك تجارب كثيرة تؤكد أن الانسان إذا عرضت عليه صور مختلفة لجسمه من الزاوية التي اعتادها فإنه لا يعرف من يكون صاحب هذا الجسم.
ونحن أطفال كان يقال لنا: ضع يدك إلي جوارك.. ضم رجليك إلي بعضهما .. امسح شفتيك.. لاترفع صوتك.. وهذه الأوامر معناها أن يتعلم الطفل ان له حدودا.. وان لجسمه حدودا يجب ألا يتعداها.. وتتعلم الفتاة ان تغطي وان تكشف من جسمها مساحات معينة.. ويتعلم الجميع ان هناك مساحات من الجسم يجب ألا يلمسها.. وان هناك مساحات يجب ألا ينظر إليها.. وان هناك كلمات يجب ألا تقال.. أي أن المجتمع يضع خريطة للجسم الانساني: ويغطي أماكن من هذه الخريطة.. ويكشف أماكن أخري.. وعلي الجميع ان يراعوا الحدود حتي لا يخرجوا عليها..
وأحيانا يتعاطي الناس المخدرات.. أو حبوب الهلوسة.. هذه المخدرات تذيب الفوارق بين جسم الانسان والعالم حوله.. أو بين جسم الانسان والأجسام الأخري.. فيشعر الانسان بأن جسمه اكبر وأضخم.. أو ان جسمه أخف كثيرا.. وانه حيوان أو نبات أو زهرة, أو انه فوق في السماء وينظر إلي نفسه في الأرض.. ان عقاقير الهلوسة تغير تشكيل جسم الانسان.. أو علي الأصح تجعل الانسان ينظر إلي نفسه علي أنه شكل آخر وانسان آخر أو حيوان آخر..
والمرأة اكثر احساسا بجسمها من الرجل.. بل انها تعرف كل بروز صغير أو كبير في جسمها..
وكل شعرة تنبت.. وتستطيع ان تتابع نمو شعرها وأظافرها وان تلاحظ ذلك عند الآخرين.. والمرأة تنظر إلي جسمها علي انه مصدر حياتها ووسيلة مستقبلها وهي لذلك تعني به وتعني بأزيائها وزينتها.. وتعني بوزنها ولونها.. وتعني بالأثر الذي يتركه جسمها علي أجسام الآخرين. والمرأة تتمني ان تكون جذابة لافتة مغرية.. ولو خيرت المرأة بين ان تكون فاضلة لاتلفت عينا ولا أذنا وبين ان تكون فاتنة وأي شيء آخر, فإن الكثير من النساء يفضلن الفتنة!!
والرجل لايعني كل هذه العناية بجسمه, إلا اذا كان رياضيا, وكان لونه البرونزي.. وعضلاته وليونة ذراعيه ورشاقة قوامه, كل ذلك كان مطلوبا مرغوبا فيه من أجل تفوقه في الرياضة.
وعلي الرغم من انك تري وجهك كل يوم, فإنك لاتستطيع ان تدرك بوضوح معالم وجهك أو رقبتك.. أو يديك.. أو بقية جسمك.. ولكن اذا جاء صديق قديم لزيارتك فإنه يقول لك: غريبة.. أنت تغيرت تماما.. طلع لك كرش.. وشعرك ازداد بياضا.. ماذا جري لك؟ شيء عجيب طرأ علي أصابع يديك.. ثم هناك كرمشة حول الفم وحول العينين.. يارجل أنت كبرت!
فأقرب الأشياء إلينا أبعدها عن الوضوح. والذي يلصق وجهه في المرآة, لا يري من وجهه إلا القليل ولكي يري أوضح يجب ان تكون المراه ابعد