مع الأديب الشاعر سلامة عبيد (1921-1984)
قضى الشاعر الأديب سلامة عبيد سحابة المحطة الأخيرة
من حياته في الصِّين خلال الفترة (1972-1984) حيث أثمرت غربته في الصّين العديد من المؤلفات والمترجمات التي ما زال معظمها مخطوطاً ومنها على سبيل المثال: ((المترادفات العربية)) و((ملاحظات حول الترجمة)) و((المكروهات في القرآن)) و((مقتطفات مقارنة من الأديان السماوية الثلاث))
و((طرائف من الصين)) كما أنجز عملاً كبيراً هو القاموس الصيني العربي الذي صدر عام (1989) تحت عنوان:
((معجم الصينية-العربية)).
عاد سلامة عبيد إلى أرض الوطن ولم يعش بعد ذلك سوى يوم وليلة واحدة حيث وافاه الأجل فوق تراب الوطن الذي أحبّه، وكانت قصيدة ((الله والغريب)) من القصائد التي دبّجها قبل عودته إلى الوطن وطلب فيها من ربه أن يعيش ولو يوماً واحداً في الوطن حيث قال:
يا رب لا تُغمض جفوني هنا
هنا قلوب الناس بيضاء
وأرضهم ماء وأفياء
لكن بي شوقاً إلى أرضي
لجبل الريّان والساحل
ألقي عليه نظرة الراحل
دعني أعش يوماً أخيراً هناك
حيث أحبائي
والذكريات الحلوة المرّة
يا رب لم أحقد ولم أندم
ألا ترى قلبي بلون الثلوج
دعني إذن أغمض جفوني هناك
حيث أحبائي
يذرفون الدمع لون الدماء
ويعرف الرجال طعم البكاء
***
وكأن الله –جلّت قدرته- استجاب لدعاء الشاعر فكان له ما أراد فجعل له سبحانه اليوم الأخير في شعلة الحياة في ربوع الوطن الحبيب سورية.. ورحل شاعرنا مودِّعاً هذه الحياة الفانية إلى رحال الخالق العظيم بعد أن جاوز الستين قليلاً (1921-1984) في الخامس والعشرين بعد حلول الربيع بيومين، حيث حلّ الربيع في 23/3/ يوم رحل عنا شاعرنا الكبير رحمه الله تعالى. فكان لرحيله دوياً وحزناً وأسى شارك فيه شخصيات رسمية من سورية والصين الذي قدّروا جهوده التربوية والثقافية حيث كان خلال وجوده في لصين يدرّس العربية في جامعة (بكين).
كان والده المجاهد والشاعر الشعبي ((علي عبيد))
أحد قادة الثورة السورية الكبرى (1925-1927) وشاعرها المؤرخ لمعظم أحداثها. ووالدته (شريفة عبيد) تلك الأم التي تعلّم منها الشاعر سلامة عبيد الصّبر والإباء في مواجهة المحن. وكان أخوه الأكبر (نايف علي عبيد)
والأصغر (كمال علي عبيد) من الشهداء الأبرار، الأول من شهداء الثورة السورية الكبرى عام 1926 والأصغر أحد شهداء حرب تشرين التحريرية المجيدة عام 1973، فهو ابن أسرة عريقة في الجهاد سخية بالشهادة والشهداء.
لجأ المربي الشاعر الأستاذ سلامة عبيد مع أهله بعيد الثورة السورية الكبرى إلى صحراء (نجد) في المملكة العربية السعودية وكان عمره آنذاك خمس سنوات ومن المنفى انتقل إلى لبنان خلال الفترة (1930-1940) ليتلقى العلم هناك.
ومن ثم عاد إلى أرض الوطن وقد أنهى دراسته الثانوية ليعمل في حقل التربية والتعليم عام (1940)، ويناضل ضد الوجود الاستعماري الفرنسي، كانت أشعاره آنذاك أناشيد ثورية يرددها الشباب في جبل العرب، وكان للأستاذ مارون عبّود أثر كبير في أدبه وشعره.
وبعد جلاء المستعمر الفرنسي شارك بمسابقة لانتقاء نشيد الجيش العربي السوري فحصل على الجائزة الأولى، وقدَّم قيمة الجائزة هدية للجيش الفتي حيث يقول في مطلع النشيد:
هتف النّصر وغنّى
لبناة المجد منا
وبعد أن استقل الوطن الذي عرف الحياة فيه في مدينة السويداء عام (1921)، تابع دراسته في الجامعة الأمريكية خلال (1947-1953) في كلية الآداب بقسم التاريخ حتى نال درجة الماجستير بتفوق، وكان أثناء دراسته يشرف على تحرير مجلة الجامعة (العروة الوثقى) وعاد إلى وطنه سورية ليمارس تدريس التاريخ في ثانويات الوطن حتى أصبح مديراً للتربية في السويداء خلال
(1953-1960) وأثناء الوحدة بين سورية ومصر أصبح عضواً في مجلس الأمة إلى أن تقاعد عام (1960).
زار الصين لأول مرة عام (1964) ضمن وفد لاتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وأعد بعدها كتابه (الشرق الأحمر).
وفي عام (1971) صدرت روايته
((أبو صابر: الثائر المنسي مرتين)) عن وزارة الثقافة بدمشق وفازت هذه الرواية بمسابقة لوزارة الثقافة والإرشاد القومي، فقدم المكافأة المالية لبطل الرواية الحقيقي (حمد ذياب)، كما فاز بجائزة النشيد للجيش العربي السوري الفتي كان ملطعها: هتف النصر وغنى لبناة المجد منا وقدّم قيمة الجائزة للجيش السوري.
كما نظم الشاعر تمثيلية شعرية بعنوان: ((اليرموك)).
ترجم الشاعر العديد من الكتب عن اللغتين الفرنسية والانكليزية.
وأصدر كتاب ((مختارات من الشعر الصيني القديم)) في بكين عام 1972.
أما نتاجه الشعري فقد أثمر عن ديوان شعر بعنوان ((لهيب وطيب)) أصدره في المطبعة الهاشمية بدمشق عام (1960). وقد ضم مجموعة من قصائده التي أبرزت شخصية الشاعر الذي اقتبس عنوانه مستلهماً من شعر أبي تمام قوله:
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيبُ عَرفِ العودِ
فكان سلامة عبيد في شعره شاعر موقف وليس شاعر مناسبة، حيث لم يكن يأتي بشعره من قبيل الانفعال وحسب بل كان له الموقف الوطني والعقيدة الراسخة الثابتة التقدمية الذي أعلنه في بواكير أعماله الشعرية (اليرموك) خاصة في القصيدة التي كانت مقدمة لها ((ذكرينا)) حيث يقول في مطلعها:
ذكرينا، فقد ألفنا التصابي
ورخيص الهوى، ورجع الرباب
ونسينا أيام كنّا أباة
نملأ الكون بالندى والشباب
يا ضفاف اليرموك مالك أقفرْت
من الشمّ والأسود الغضاب؟
يا ضفاف اليرموك مالك أغفيت
على غمرة الزمان المحابي؟
يا ضفاف اليرموك آن لك
البعث فميدي وهللي يا روابي
ولقد قدّم لديوانه الشعري (لهيب وطيب) أستاذه (مارون عبود) حيث قال: الديوان عنوانه ((لهيب وطيب)) وهو كذلك فلو لم يحترق سلامة عبيد في جحيم الآلام لما خرج من رأسه هذا الشعر العربي الفصيح الذي لم تفسده رطانة وميوعة هذه الحقبة، إن موضوعات الديوان متنوعة مرتبطة بشخصية الشاعر وعاطفته العربية المتقدة مشبوبة.
كثير من قصائد ((لهيب وطيب)) سارت على ألسنة كثير من الطلاب والمعلمين والمثقفين وخاصة قصيدة ((من دمانا)) فيقول في عدوان 29 أيار 1945:
من دمانا أيها السفاح من دمع اليتامى والأيامى
أتْرعِ الكأسَ مُداماً
وأدرها بين أشلاء الضحايا
واستغاثات الثكالى والسبايا
وزئير المدفع الطاغي وأنّات الشظايا أترع الكأس وناولها الندامى
من دمانا، أياها السفّاح
من دمع اليتامى والأيامى
أمْطرِ الشامَ حديداً ولهيباً
واستبِحْ فيها هلالاً وصليبا
واذبح المرضى ولا تخشى عذولاً أو رقيباً
عذّب الأسرى ولكلّ ما تشاء
وإذا الرعب تولاّك، وأضناك العياء
من دمانا، أيها السفّاح من دمع اليتامى والأيامى
أتْرعِ الكأسَ مُداماً
هكذا كان الشاعر شاعر موقف لا شاعر مناسبة وامتدت آثاره في الوطن وخارج الوطن.
المناهل: سلامة عبيد الأديب الإنسان للأستاذ فوزي معروف الصادر عن وزارة الثقافة عما 1998.
الموسوعة الموجزة لحسان بدر الدين الكاتب
مجددون ومجترّون – ط1 بيروت 1948 لمارون عبود.
فنون الأدب المعاصر في سورية للدكتور عمر الدقاق.
صنّاع الأدب للدكتور عمر الدقاق من منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق 1983.