ثم ينتقل المنصّر إلى الطور الأخير، ضاربا الضربة القاضية، تلك التي تطمئنه، بأنّ الله يحبه ويريد أن ينقذه من هذا، ثم يتلو عليه النص المشهور، والذي حسب النصارى يختصر الكتاب المقدس " لكن هكذا أحبّ الله العالم حتى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية " ( إنجيل يوحنا : 3 نص 16).
إذن " بوسيلة الإيمان " يكون الخلاص، وذلك بأن تعتقد أنّ يسوع هو " ابن الله " ومات على الصليب من أجل ذنوب البشر، وأنّ الخطايا دفنت معه في القبر، ثم في اليوم الثالث يبعث نقيا منيرا، تاركا الذنوب تحت التراب.
فيكون الشخص إذن أمام اختيارين :
- إما أن يؤمن بهذا وذنوبه كلها مغفورة، وهذا يؤهله إلى حياة منيرة أبدية، وهو مبرأ أمام الربّ بهذه العقيدة.
- أو يجهل كلّ هذا، ويموت بذنوبه، وسيكون مستوجب العقاب الأبدي ( إنجيل مرقس : 16نص 15).
أعزائي القرّاء ؛ هلاّ فهمتم عملية التلاعب هذه ؟
إنّ الاعتقاد في النصرانية يتمثل في اعتقاد أعمى !
ألم يأت في الإنجيل : " إن آمنت تشاهدين مجد الله " ؟ ( إنجيل يوحنا :11 نصّ 40).
فالواعظ إذن يجمّد عقلك، ويركز على العواطف فقط.
إنّه يثير فيك شعور الإحساس بالذنب، والخوف من الموت بذنوبك من جهة، ومن جهة أخرى يثير فيك شعورا بالأمل.
وبهذه الكيفية وقعت في هذه الحيلة، ونحن نسير في منتصف الليل، وأنا لا أميّز تماما وجه المنصّر، ولا أسمع سوى كلمات سحرية وعذبة مثل العسل.
لم أفهم ماذا يحدث لي ؟ لم أعرف أينبغي لي أن أخاف أم أكون مطمئنا؟
كنت أتساءل في مكنون نفسي: من هذا الرجل ؟ مع من لي الشرف ؟ هل مع الشيطان أم مع ملاك ؟ وقبل أن نفترق قدّم لي الكتابين.
شيء عجيب، منذ ذلك الحين وصورة هذا الرجل لم تعد تفارق مخيلتي...
وصلت إلى الدار وفي ساعة متأخرة من الليل، تناولت العشاء بسرعة، ودخلت غرفتي وبدأت في قراءة العهد الجديد بلهفة شديدة، قرأت إذن الأناجيل، والتي كانت أمنيتي، لقد انبهرت انبهارا شديدا بنورانية كلمات يسوع، كانت لا تتحدث إلاّ عن الحب والمغفرة. وانبهرت من المعجزات والبركات التي يتركها أينما حلّ( عليه السلام).
كان أفقا جديدا فتح أمامي، لقد كان المثل الأعلى !ثم نمّت متأخرا تلك الليلة.
بعد استيقاظي في صبيحة الغد، الأحاسيس التي أحسست بها داخليا كانت نفسها، شعرت أنّي في نور وسعادة، ومنذ ذلك الحين وزياراتي لهذا الشخص النصراني تتكرّر، حتى شعرت أنّي جد متعلق به...
لم أعتنق النصرانية مباشرة... لكن كنت أشعر دوما بشيء ما يدعو قلبي لإعتناق هذه العقيدة، كان هناك حاجزان اثنان: التثليث والإسلام..
غير أنّي – مع فرط ما تحدثت مع النصراني – إتضح لي كل شيء، إذ كان يحدثني عن الإسلام معتبرا إياه عقيدة الشيطان، أمّا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهو عنده مدّعي النبوة، كان يردد عليّ مرارا كلمة المسيح( عليه الصلاة السلام) في الإنجيل التي يقول فيها : " كل شجرة طيبة تحمل ثمارا طيبة، لكن الشجرة الخبيثة تؤتي ثمارا خبيثة " ( إنجيل متى 7نص 17).
فالإسلام مثل ما يزعمون : شجرة خبيثة : تؤتي ثمارا خبيثة، وثمار الإسلام هي الإرهاب، الجريمة، العنف.
أمّا فيما يخص التثليث فكان يقول لي بأنّ النّصارى لا يعبدون إلاّ إلها واحدا، والذي يتجلّى في ثلاثة أشخاص !! الأب، الابن، الروح القدس !!
والذي يكونوا واحدا وهم متساوون !!ولكي يفسر هذه " الجمبازية الروحية " قدّم لي النّصراني مثاله الشهير : (فالإنسان خلق على صورة الله، مثل ما يقول الإنجيل، فهو يملك جسدا، وروحا ونفسا ولكنّهم شيء واحد).
وبجهل منّي، بدا لي أنّ الأمور واضحة، فلم يبق لي إلا أن أتبنى الجهر بالعقيدة الجديدة، وأن ألتزم في طريق المسيح، والذي صار منذ ذلك الوقت سبيلي وحقيقتي.
وفي صبيحة أحد الأيام، ذهبت إلى النّصراني لأجهر بإيماني، وكم كانت سعادته كبيرة... وأصبحت منذ ذلك الحين " ابن الله ".
ولم أكن أعلم أنّي أمضيت عقدا مع الشيطان.
سفر الخروج
لا يمكن أن تتصوروا ما أحسست به عند بداية إعتناقي للنصرانية، فلقد كانت السعادة التي تغمر قلبي بالغة وفريدة من نوعها، إذ لم أتوقف من ترديد هذه الكلمة الموجهة من طرف " الأب ليسوع" : " أنت إبني الحبيب، وفيك وضعت كامل سعادتي "، وكأنّها كانت موجهة اليّ، أحسست بسكينة عميقة، وبنور استولى على قلبي ؛ لقد كنت مسرورا.
والنّصارى يسمّون هذا "بالحب الأول "، فهم يعتقدون بأنّ هذا التأثير نتيجة إستقبال الروح القدس، روح يتلقّاه كل من يعتقد العقيدة النصرانية.
لقد أحدث معي تغييرا كبيرا، فكان :" سفر الخروج ".
تركت إذن الحياة القديمة لأجل حياة جديدة، مزّقت الكذب الذنوب والظلمات، لأسلك سبيل الحق والنّور، كنت أعتقد حقيقة أنّي بعثت من الأموات مع المسيح من أجل الحياة الأبدية، فكنت أرى الأمور على وجه مخالف، وكنت أجهد نفسي لأزرع الحب والصداقة حولي،أقابل الشر بالخير، الكره بالحب، وكنت أجتنب كذلك الغضب مثلما يوصي الإنجيل.
وهدفي يتمثل في الوصول إلى الطهر والقداسة.
ولأجل هذا، كنت مع إخواني النّصارى، نلتقي مرة في الأسبوع لنقوم بما يسمى "بالتقارب الأخوي"التي كانت بمثابة غذائنا الروحي. فكنّا نتقاسم كلمة الربّ نشكر المسيح يسوع من أجل الذنوب التي غفرها لنا مسبقا، لأنّه مات من أجل خلاصنا.
كنّا نصلي، نغنّي، وفي بعض الأحيان نرقص، نظرا لغلبة النّشوة التي تساورنا.
وكنّا نظن أنّ حضور يسوع هو الذي استقرّ بنا.
ولقد كنّا كذلك- في بعض المناسبات – نقضي الليالي من أجل الاحتفال بميلاد " يسوع"، فنحيي الليل كله ونحن نصلّي ونترنم ب:" محامد ليسوع ".
ومرة في السنة، تقام مؤتمرات، فيها نتشرّف بتلك المناسبة بزيارة أخ لنا من الخارج (غالبا من فرنسا، أمريكا...)، الذين كانوا يقدّمون لنا توجيهات ونصائح تتعلق بعقيدتنا، وبكلمة موجزة، كل هذا كان يعيننا على تجديد وتقوية إيماننا وتوطيد علاقاتنا الأخوية.
إن النظرة المسيحية للأشياء وتفسيرها للظواهر تسير جميع الأصعدة : النّفسية، الاجتماعية، السياسية...الخ،وكلها مرتبطة بالجانب الروحي، وعلى حسب هذا التصور، فإنّ العالم ملك للشيطان، ففيه الصراع بين الظلام والنّور، بين الربّ والشيطان، والذين لا يؤمنون بيسوع ينتسبون إلى الشيطان، وهم في الظلمات، وهم روحيا أموات.
إنّ النّصراني لا يصارع ضد" الجلد والدم "، أي ضد النّاس لكن ضد الأرواح.
فمثلا عندما، يتحدث نصراني مع مسلم، ابتداء يعتقد أنّه يواجه روح الإسلام التي تتعلق بالمسلم وتمنعه من رؤية الحقيقة والإيمان بيسوع مخلّصه.
إنّ النّصراني الذي أهين أو اضطهد من أجل اسم المسيح، ينبغي أن يكون سعيدا، لأنّ يسوع يقول له بأنّ أجره سيكون كبيرا ( إنجيل متى :5 نص 11-12).
ولمّا اكتشف النّاس إعتناقي للنصرانية كان ذهلهم شديدا، وانتشر الخبر ووصل عائلتي، والتي كان ردّ فعلها عنيفا خاصة من طرف إخوتي الكبار.
والله أسأل أن يغفر لي الإضطراب الذي أحدثته لهم خاصة لأمّي، لكن هذه المضايقات لم تثن عزمي، بل بالعكس، لقد زادت قوة إيماني، لأن التزامي كان بصدق، والقضية قضية مبادئ وعقيدة.إذ لا شيء بإمكانه أن يرد قناعتي، في الصلاة كنت أدعو " يسوع" لكي يغفر لهم ويهديهم نحو النّور من أجل أن ينجوا ويفوزوا بالخلاص الأبدي.
إنّ أخصّ ما يميز العقيدة النصرانية هو الأثر الجاسم على الشخص النّصراني، هذا الأخير يكون جد منغلق على إيمانه، فلقد كنت أعيش غيابا كليا عن الحياة العائلية والاجتماعية، في حين أنّي كنت جد مرتبط بإخواني النصارى أكثر من أفراد عائلتي.
لقد كان الإنجيل بالنسبة لي بمثابة ثدي الأم للرضيع، وأنا الذي كنت أحب القراءة وأظهر اهتماما بالغا بالبحث والعلم، كل هذا أصبح بالنسبة لي دون أيّ أهمية، لأن الكتاب المقدس يقول بأنّ :" حكمة العالم جنون بالنسبة للربّ " إذ كل ما ينتسب إلى هذا العالم زائل، محكوم عليه بالفناء.
" تفاهة التفاهات، كلّ شيء تافه " هكذا مذكور في (سفر الجامعة 2 نص 2).
يتبع.............................................. ..............................