لطالما سعيت إلى إدراك نظرة أوضح للحاضر، ورغم ذلك وجدت من الصعب أن يحيا المرء الحاضر دون أن يتيح لتصوّرات مستقبلية من التحكّم بحالته النفسية.
وبعد فترة من الصراع مع النفس، في محاولة البحث عن نظرة واضحة للحاضر، اكتشفت أن عليّ إنجاز أي عمل من أعمالي من كل قلبي وبأتم التركيز مهما صَغُرَ شأنه. ووجدت أن الإنسان يُضعف نفسه ما لم يمنح كل فكرة وفعل أفضل ما لديه، لأن أهمية الأعمال لا تتحدّد إلا بالقدر التي تعبّر فيه عن حقيقة الوجود، وحقيقة الوجود لا يخلو مكان منها أو زمان، ولا يأتي الضعف والخوف والتردّد إلا عندما ينصّب المرء نفسه حاكم على الأمور فيعاني من حكمه المسبق عليها أكثر من معاناته من مواجهتها.
قد نعاني من التكرار في بعض المهام التي نقوم بها خلال حياتنا اليومية وذلك لأننا مغيّبين عن حكم الحاضر وما يحمله لنا من معنى متجدّد بفعل أحكامنا المسبقة على ألأمور. وإذا أعطينا فرصة لأنفسنا لنعالج الأمور ببصيص من نور هذه المعرفة، سرعان ما نكتشف أن العمل المطلوب منّا لا يستغرق سوى وقت إضافي قليل كي نكمله بشكل جيد، وحينما ننجزه بهذه الروحية سنشعر بارتياح كبير، وكأننا أنجزنا أعظم عمل في العالم.
ومن أقوال أحد الحكماء: " قم بواجبك على أكمل وجه مهما كان صغيراً، وعند نهاية النهار لن يكون ثمة ندم ولا شعور بالهدر للوقت بل رضى وبهجة، وإني أرى هذه البهجة الداخلية دلالة أكيدة على اتخاذي الطريق الصحيح كوني أنجزت العمل بأفضل ما بوسعي، فتأتي السعادة من الشعور باليقين أكثر مما تأتي من العمل بحد ذاته، وهذا دليل على أن السعادة لا تؤخَذ باليد بل ترسخ بالنفوس، ولا ينبغي للمرء أن يتصوّر صورة للسعادة بعيداً عن مفهوم الإرادة المكتفية بذاتها، وعندما يتوقّف المرء عن تصوّر السعادة يعيشها.
أن ننجز أعمالنا من كل قلبنا يعني أن نتكلّم لغة القلوب. ليس ثمة ما يزعج أكثر من العمل المدفوع بالواجب الخالي من مضمون المحبة فإنه لا يحظى سوى بقسطٍ صغير من اهتمام الغير، كالموظف الذي يبدو أنه يستمع إلى شيء، وهو منشغل كلّياً بتدوين مطالب رب العمل، أو كرب العمل الذي يعطي انطباعاً أنه تنازل متكرّماً كلّما منح أحد موظّفيه بضع لحظات من وقته الثمين. إنه أمر ملح أن يكرّس المرء كامل انتباهه إلى أي عمل يقوم به لأنه جزء من حاضره ومهما كانت نسبية أهمية العمل فإنه يعبّرعن حقيقة مطلقة للناظر بعين الوجود مهما اختلفت الأوقات والأزمنة والظروف والأحكام، وكل فعل يقوم به أي إنسان ينطبع في لوح الأثير ليعبّر عن حقيقة كونية غير موحّدة مهما تجزّأت انطباعاتنا الشخصية. في كل عمل تكمن حكمة، ولا يُحاسَب المرء على الأعمال، بل على قدرته على رؤية هذه الحكمة، والحساب ينعكس مباشرةً على حالة الإنسان في اللحظة التي يعيشها، كما يعيش رجل متكبّر متعجرف لحظات صعبة عندما يجد نفسه بالصدفة في مكان وبين أناس لا يليقوا بصورته أو مكانته، فتكون حالته النفسية أصعب من حالتهم، إذ هم في أماكنهم غير مهدّدين بوجوده بينهم بينما هو قد أُزعِج خارج المكان الذي صنعه لنفسه. فلنعلم إذاً أن كلّ لحظة نمرّ بها لا بد أن تكون ثمينة ما دام قد قُدّر لنا أن نعيشها. يجب أن نفهم ما الحكمة من ورائها وما المطلوب منا لكي نعيشها بسلام وليس لكي نحكم على أهميتها، عندها نعرف ونتيقّن أنه لا يُطلَب من المرء شيءأكثر من قدرته على تحمّله، إنما هو الذي يحشر أنفاسه بتصوّراته وتخيلاته للمستقبل ويهز صورة كيانه.
"من كل قلبنا"، حينما نتناغم مع هذه العبارة سنجد أنه يجب أن نفتح قلوبنا وعقولنا لفهم كل عنصر من عناصر الحاضر بعين الوحدة كما ترى العين كل ما يحيط بها بتجرّد عن أهواء النفس وتوجّهاتها. من يدري كم تكون كلمة عادية يطلقها عابر سبيل على قدر من الأهمية بالنسبة لنا؟
فرغم كل النظريات السائدة التي تحثّ المرء على النظر إلى الواقع بعين التناقضات التي تحكم عالم الأفكار والهواجس، تيقّن أن الحكمة الأزلية لها قول في هذا وليس أي قول. باختصار، كل حدث أو إنسان يدخل عالمك يدخل وفقاً لقانون روحي يرتكز على بنية معنوية هي أبداً في خدمة الناظر بيعن الوحدة والساعي إلى تطوير هذه النظرة.
غالباً ما تبقى أكثر التساؤلات أهمية في حاضر الإنسان مؤجلة إلى أجل غير مُسَمّى. ولو أن المرء يعير النقاش جزءاً أكبر من التركيز والأهمية لاكتشف سبب وجوده في زمان ومكان معيّن يفعل ما يفعله، وبهكذا اكتشاف تكمن السعادة الحقيقية المجرّدة من الأنانية.
إن التساؤلات الحقيقية قد لا تكون لها علاقة بالحديث الجاري، لكن ذي القلب الكبير يشعر حدسياً بالوضع الحقيقي لأنه يكرّس اهتماماً كاملاً لحضن حاضره ومصادقة قدره وواقعه وهي طريقة أخرى للقول أنه يولي رعاية بأخيه الإنسان مجرّدة من المصالح.
إذاً، "من كل قلبك" قد تعني أيضاً أن نكرس قلوبنا لمَن يخاطبنا بالنظر ما وراء شخصيتنا وشخصيته والاهتمامات المهيمنة على الشخصيتين. فالإنسان الذي يتمتع بأفضل وضع يخوّله فهم حالات الآخرين هو مَن يستطيع الخروج من كهف أوهامه الخاصة ويدرك حدسياً الظروف الحقيقية ما وراء أقنعة أولئك الذين من حوله، لأنه لديه شعور بالمحبة والاهتمام نحو الجميع وهذا الشعور هو جزء لا يتجزأ من سعادته.
وأخيراً نختصر القول بأن التعريف النهائي لعبارة "من كل قلبك" هو أن نسعى لتوحيد الذات مع الذوات فنكون على حقيقة ذواتنا كما هي في كل الأزمان وضمن كل الظروف. كلنا قد عرف أناساً حافظوا على إسلوبهم في السراء والضراء ولم يتخلّوا عنه وأحبهم الجميع، لعلهم يقعون أحياناً في الأخطاء لكنها أخطاء بريئة لا تلوثها الأنانية. وصحبة هؤلاء هي البهجة عينها.
منقول
السيد الكريم جرناس
أشكر مرورك على هذا الموضوع وبصمتك الراقية التي تركتها فوقه
تحياتي لك وانتظرك دائماً بكل حب