حازم صيموعة
11-12-2009, 11:32 AM
"الفرقة الجهنمية"
كانت معاقلنا متباعدة إلى حد ما بحيث يظل العدو( الدروز) تحت المدى المجدي لنيراننا إذا حاول
أن يقومبأي هجوم على القرية ( المسيفرة ) , وتركز القائد وأركانه في بيت في بيت حجري محصن
قرب الجامع , وتركزت كوكبة من الخيالة التي كانت ترافقنا , وهي كوكبة الفرقة الأجنبية , ومنها
عدد من القواقزة , تركزت في قلب البلدة , وكان كل معقل وحدة مستقلة كفيلة بالدفاع الذاتي , وكان
كل واحد خلف متراسه , وعليه أن يدافع عن طوله خمسة عشر قدماً , ومن ثم طُوقت هذه الجدران
الدفاعية بخط رفيع من الأسلاك الشائكة .
لم نحلق , ولم نغسل وجوهنا كثيراً , بدا منظرنا رهيباً بلحانا المسترسلة , وشعرنا المتلبد , وكان الهواء
مليئاً بالغبار , وكنا دائماً قذرين , إلا بنادقنا التي كنا نداوم على تنظيفها , كان الأمر الدائم يلاحقنا
باستمرار لتنظيف الأرض من الحجارة لتصبح صالحة لهبوط الطائرات . ومن هذا المكان كنا نرى
بجلاء قلعة السويداء المحاصرة بعيداً في أعالي التلال , وكنا على اتصال دائم بحاميتها بواسطة المرايا
نهاراً وبالإشارات الضوئية ليلاً , لم نكن نحن جنود الصف نعرف معاني هذه أكثر هذه الرسائل , لكننا
كنا نتخيل دائماً فيها إشارات مأساوية ( نفذ ماؤنا .. نفذ طعامنا .. الجرحى يتعذبون .. ) وهكذا أراد
القائد اكتشاف المنطقة , فأرسل ثلاث فصائل لكنها ما لبثت أن عادت برقيب قتيل وعدد من الجرحى
كانت هذه الحادثة بمثابة إنذار , فتكهرب جو المعسكر .. ضوعف عدد الحرس ثلاثاً .. ونام سدنة
الرشاشات قرب رشاشاتهم , وهكذا فعل كل رجال الفرقة , أما أنا فقد نمت تحت الجدار , في متراسي
وبندقيتي مشدودة إلى يدي وكومة صغيرة من الرمانات اليدوية تحت قدمي .. فقد كنا ننام دائماً وبنادقنا
مشدودة إلى سواعدنا في مثل هذه المنطقة , حيث كان الدروز بارعين ولا يعرفون التعب في الزحف إلى
داخل المعسكرات في الليل ليخطفوا من جندي غافل بندقيته ويفروا بها بعد أن يخروا عنق صاحبها ,,
لم نكن نكتفي بأن نشد بنادقنا إلى سواعدنا .. بل كنا ننام فوقها أو نتوسدها ..
كان مجموع رجالنا في هذا المعسكر ستماية على الأكثر .. وفي الساعة الثالثة والنصف صباحاً كان
أحد الرقباء يتفقد المخافر , فخيل إليه أنه يسمع صوت حجر يتدحرج في المنحدر المقابل للمعسكر من
جهة الدروز , ألصق أذنه على الأرض .. فسمع أصوات حجارة ووقع مناسم جِمال .. فصرخ بصوت مدوٍ
إلى السلاح .. وراح صوته يتردد من معقل إلى معقل . فوثبنا على أقدامنا واتخذنا متاريسنا وألقمنا بنادقنا
وهكذا كنا على أتم الاستعداد في تلك الليلة القارسة الباردة .. مرت برهة دون أن يحدث شيء .. كان قد حدث
قبل هذا الإنذار إنذاراً في الليلة السابقة , لكنه كان إنذاراً كاذباً سببه أحد جنود الفرقة , وهو برتغالي صغير شبه
مجنون .. خيل إلينا الآن أن ما حدث هذه الساعة شبيه بما حدث أمس .. ورحنا نشتم أجداد ذلك الجندي
الذي أيقظنا ..! ولكن سرعان ما رأيت وميضاً يسطع في الظلام .. وأحسست برصاصة تئز فوق رأسي ..
وفي الحال اشتعل الظلام بنيران البنادق .. وراحت جحافل الطلقات النارية تغني فوق رؤوسنا أو تئز
على على جدران متاريسنا بأصوات شبيهة بمواء القطط ...
أُطلق ضوء كشاف أضاء لنا المنحدر الذي يواجهنا .. والمسيل الفاصل بيننا وبين ذلك المنحدر ..
حيث كانت الأرض المحيطة بكاملها تعج بأشباح تزحف تزحف بصمت .. وما كاد الضوء يفضح سرهم
حتى انفجروا بالهتافات المدوية الأكثر شراسة وترويعاً .. كنا نطلق النار نحن أيضاً لكن المرء في
مثل هذه المعركة يطلق النار , وهو لا يدري أين يطلق النار ..
كانت المعركة في البدء معركة مربكة رهيبة .. لم يبق في الفضاء من الأضواء الكاشفة إلا القليل ..
وكان الليل حالكاً لا تنيره إلا النيران المنطلقة من بنادقنا وبنادقهم .. وكان عدد منهم قد تمكن من اختراق
معاقلنا والوصول إلىداخل القرية , حيث استطاع المعقل وقيادة الأركان المحصنة الثبات بعناد مستميت
إلا أنهم تمكنوا من احتلال معقل الخيالة حيث قضي على التسعة والعشرين قوزاقياً الذين يحرسونه ..
ومن ثم استولى المهاجمون الدروز على خيول الكتيبة .. وعندما بدؤوا يفرون بها خارج القرية , كان
الفجر قد انبلج , وأصبحت الرؤية أفضل ,وبما أن الحصان أكبر من الفارس , فقد كان التسديد عليه
وقتله أيسر , وهكذا أخذنا نطلق النار على خيولنا ذاتها دون أن نفكر أنها خيولنا نحن .! نرمي الفرس
فيرتمي الفارس راجلاً فاقد الرجاء تطوقه نيران بنادقنا .. قليلون منهم استطاعوا النجاة تحت حماية
نيران إخوانهم التي كانت تنصب علينا من المنحدر ..
ومن ثم طلع النهار .. وظن بعضنا أن كل شيء قد قد انتهى .. ولكن ما حدث لم يكن إلا مناوشة .. مناورة
أولى من الدروز .. ونجحت إلى إلى حد ما .. فقد حرمتنا من خيولنا .. وحولتنا إلى جماعة من المشاة ..
خلال دقائق كانت الشمس تشرق . وراء نداء إلى السلاح ينطلق من جديد , فوثبنا جميعاً إلى متاريسنا ..
كان المشهد الذي يواجهنا الآن مشهداً غريباً مخيفاً رهيباً حقاً .. كما لو كان الواحد منا مخموراً بنشوة المعركة .
كان الدروز يتدفقون من المنحدر , وتحت أقدام التلة , وكأن الأرض نفسها هي التي تميد .. خمسة آلاف منهم
الخيالة , والمشاة .. حيث كان المشاة في المقدمة وخلفهم مباشرة الفرسان .. وهم على استعداد لقيادة الهجوم
خلال الثغرات التي تتركها فصائل المشاة .
كانوا جميعاً بملابس الحرب الخفيفة , بستر قصيرة وبلا عباءات , وكوفياتعم الملونة تتماوج في الهواء .
كانوا يلوحون ببنادقهم هازجين , مدمدمين , يتقدمون وفي طليعتهم ترف أربعة أعلام سوداء تحف بأميرهم .
عادت الرشاشات تهدر , وبنادقنا تدوي على الدروز و إلا أن تلك الكتلة البشرية كانت تتقدم صوبنا في
هجوم ضار مستميت وهم يتصارخون في عرين الحمى مرددين : يا الله .. يا الله .. يا الله ...
كانت موجة الهجوم تتكسر بين الحين والآخر , على بضعة أمتار من مناريسنا , وبين الحين والآخر كنت
أستطيع أن ألقي نظرة خاطفة على ذلك المشهد الغريب والرائع .. لقد استطاع الهجوم الأول أن يوصل
بعض المهاجمين إلى داخل القرية , حيث كانت إلى يميننا , ولكن دون أن يجتاحوا أي معقل من معاقلنا ,
حيث كان إلى جانبنا وبالقرب منا في ساحة البلدة مزار يتحكم موقعه بساحة البلدة وما يجاورها .. وفي هجوم
أشبه ما يكون بموجة تنساب فوق شاطء رملي , راح أميرهم يتوج ذلك المزار بأعلامه الأربع السوداء الكبيرة
ثم همز حصانه , ليستدير صوبنا , وفي حركة واحدة ركز حرسه ذوو الألبسة الملونة تلك الأعلام فوق المزار
بعزم وقوة كأنما , كأنما يقصدون أن تبقى كذلك إلى الأبد ..ومن ثم ترجل بهدوء .. في ظلال بيارقه المرفرفة
وأخذ يدير المعركة من هناك . وفجأة تغطت سطوح القرية الترابية بالقناصة المهاجمين , وراحوا يغمرون
معاقلنا بنيران لم لم نكن نستطيع الرد عليها , بسبب انشغالنا بالهجوم المنقض علينا , كانوا يتقدمون من ذلك
المنحدر , متدفقين , من حجر إلى حجر , ومن جدار إلى جدار , مثل شلال كبير , ومن ثم يندفعون نحونا في تلك
الأرض العراء , وكانوا كثيراً ما داهموا متاريسنا رغم غزارة نيران بنادقنا من كل صوب . وأن بعضهم
ــ والحقيقة تقال ــ ماتوا في ظل تلك المتاريس , وعندما انتهى كل شيء وجدنا جثة أولئك الشيوخ الجبليين
ويداه متشبثتان بجدار متراسنا , لقد كان يهاجم رشاشاتنا على ما يبدو وهو أعزل من كل سلاح , حيث كانت
أصابعه في الزاوية الداخلية من الحاجز , وقد تطاير فوقها رذاذٌ من من دماغ جمجمته المهشمة ..! وقد أدهشنا
أن نعد في تلك الجثة أكثر من ثلاثين رصاصة واضحة من طلقات بنادقنا ..!!
كان الموقف على ما يبدو ميؤوساً منه بالنسبة لنا , صحيح أننا استطعنا الصمود في معاقلنا , ولكننا لم نتمكن
من الحيلولة دون تسلل تلك الجماعات إلى داخل القرية في حين كان القناصة من من الدروز يمطرون معاقلنا
بوابل من رصاصهم .
كانت موجات الهجوم متلاحقة لا تتخللها إلا فترات خاطفة من الاستراحة تتجدد فيها حماسة المهاجمين ,
وانطلاقهم المستميت وهم يحدون ..
وهكذا كان حال معاقلنا الأخرى في مقاومتها , فكأنها قوارب صغيرة يتقاذفها خضم هائج .
لقد رايت هؤلاء الجبليين المتعصبين يتقدمون نحونا , وفي جسومهم عدد من رصاصاتنا , يتقدموا ليموتوا فوق
أسلاكنا الشائكة , حتى الجرحى كانوا يتابعون إطلاق النار , كانوا مستخفين بالموت , يطلقون النار بلا هوادة
من وراء صخرة أو حتى في الأرض العراء حتى آخرخلجة من خلجاتهم .
لقد مرت بي ساعات أتذكر أني أحسست في بعضها وكأني أعيش حلماً لا حقيقة .. فقد انقض نحو متراسي فجأة
حوالي عشرة من الدروز في هجوم مستميت فخيل إلي وكأن حركتي قد شلت , لأنهم كانوا جميعاً من أولئك من
الشيوخ , بلحى مشعشعة طويلة تتدلى إلى صدورهم , كانوا قصيري القامة غريبو المنظر يتحدون نيراننا المركزة
وكأنهم أرواح سحرية من عالم غير عالمنا , ظلوا يتقدموا حتى أسلاكنا الشائكة , ومن ثم وبحركة واحدة راحوا
يقفزون فوقها , ومن سقطوا جميعاً دفعة واحدة وهم يحملون عدداً من رصاصاتنا في أجسامهم منذ اللحظة التي
انطلقوا فيها من خلف ذلك الجدار ,, وإني أجزمأن العديد منهم قد ماتوا وقوفاً على أقدامهم في هذه الهجمة .
ازداد الموقف تأزماً , لقد كادت ذخيرتنا تنفذ , وها أن الدروز يستعدون لشن هجوم جديد , لكن أزيزاً في الفضاء
بدا يدوي , وعندما رفعنا عيوننا نحو السماء شاهدنا سبع طائرات أو ثمان تحلق فوقنا , وتسترع في قصف
الدروز , ومن ثم تنخفض أكثر فأكثر وتحصدهم برشاشاتها , وبدأت النجدات من الجيش تتوالى , حيث بدأ انسحاب المهاجمين الذين كانوا قد احتلوا قسماً من البلدة بعد قتال مرير ..
ــ من كتاب " دوتي " ــ وهو صف ضابط فرنسي ــ في وصفه لمعركة المسيفرة .
كانت معاقلنا متباعدة إلى حد ما بحيث يظل العدو( الدروز) تحت المدى المجدي لنيراننا إذا حاول
أن يقومبأي هجوم على القرية ( المسيفرة ) , وتركز القائد وأركانه في بيت في بيت حجري محصن
قرب الجامع , وتركزت كوكبة من الخيالة التي كانت ترافقنا , وهي كوكبة الفرقة الأجنبية , ومنها
عدد من القواقزة , تركزت في قلب البلدة , وكان كل معقل وحدة مستقلة كفيلة بالدفاع الذاتي , وكان
كل واحد خلف متراسه , وعليه أن يدافع عن طوله خمسة عشر قدماً , ومن ثم طُوقت هذه الجدران
الدفاعية بخط رفيع من الأسلاك الشائكة .
لم نحلق , ولم نغسل وجوهنا كثيراً , بدا منظرنا رهيباً بلحانا المسترسلة , وشعرنا المتلبد , وكان الهواء
مليئاً بالغبار , وكنا دائماً قذرين , إلا بنادقنا التي كنا نداوم على تنظيفها , كان الأمر الدائم يلاحقنا
باستمرار لتنظيف الأرض من الحجارة لتصبح صالحة لهبوط الطائرات . ومن هذا المكان كنا نرى
بجلاء قلعة السويداء المحاصرة بعيداً في أعالي التلال , وكنا على اتصال دائم بحاميتها بواسطة المرايا
نهاراً وبالإشارات الضوئية ليلاً , لم نكن نحن جنود الصف نعرف معاني هذه أكثر هذه الرسائل , لكننا
كنا نتخيل دائماً فيها إشارات مأساوية ( نفذ ماؤنا .. نفذ طعامنا .. الجرحى يتعذبون .. ) وهكذا أراد
القائد اكتشاف المنطقة , فأرسل ثلاث فصائل لكنها ما لبثت أن عادت برقيب قتيل وعدد من الجرحى
كانت هذه الحادثة بمثابة إنذار , فتكهرب جو المعسكر .. ضوعف عدد الحرس ثلاثاً .. ونام سدنة
الرشاشات قرب رشاشاتهم , وهكذا فعل كل رجال الفرقة , أما أنا فقد نمت تحت الجدار , في متراسي
وبندقيتي مشدودة إلى يدي وكومة صغيرة من الرمانات اليدوية تحت قدمي .. فقد كنا ننام دائماً وبنادقنا
مشدودة إلى سواعدنا في مثل هذه المنطقة , حيث كان الدروز بارعين ولا يعرفون التعب في الزحف إلى
داخل المعسكرات في الليل ليخطفوا من جندي غافل بندقيته ويفروا بها بعد أن يخروا عنق صاحبها ,,
لم نكن نكتفي بأن نشد بنادقنا إلى سواعدنا .. بل كنا ننام فوقها أو نتوسدها ..
كان مجموع رجالنا في هذا المعسكر ستماية على الأكثر .. وفي الساعة الثالثة والنصف صباحاً كان
أحد الرقباء يتفقد المخافر , فخيل إليه أنه يسمع صوت حجر يتدحرج في المنحدر المقابل للمعسكر من
جهة الدروز , ألصق أذنه على الأرض .. فسمع أصوات حجارة ووقع مناسم جِمال .. فصرخ بصوت مدوٍ
إلى السلاح .. وراح صوته يتردد من معقل إلى معقل . فوثبنا على أقدامنا واتخذنا متاريسنا وألقمنا بنادقنا
وهكذا كنا على أتم الاستعداد في تلك الليلة القارسة الباردة .. مرت برهة دون أن يحدث شيء .. كان قد حدث
قبل هذا الإنذار إنذاراً في الليلة السابقة , لكنه كان إنذاراً كاذباً سببه أحد جنود الفرقة , وهو برتغالي صغير شبه
مجنون .. خيل إلينا الآن أن ما حدث هذه الساعة شبيه بما حدث أمس .. ورحنا نشتم أجداد ذلك الجندي
الذي أيقظنا ..! ولكن سرعان ما رأيت وميضاً يسطع في الظلام .. وأحسست برصاصة تئز فوق رأسي ..
وفي الحال اشتعل الظلام بنيران البنادق .. وراحت جحافل الطلقات النارية تغني فوق رؤوسنا أو تئز
على على جدران متاريسنا بأصوات شبيهة بمواء القطط ...
أُطلق ضوء كشاف أضاء لنا المنحدر الذي يواجهنا .. والمسيل الفاصل بيننا وبين ذلك المنحدر ..
حيث كانت الأرض المحيطة بكاملها تعج بأشباح تزحف تزحف بصمت .. وما كاد الضوء يفضح سرهم
حتى انفجروا بالهتافات المدوية الأكثر شراسة وترويعاً .. كنا نطلق النار نحن أيضاً لكن المرء في
مثل هذه المعركة يطلق النار , وهو لا يدري أين يطلق النار ..
كانت المعركة في البدء معركة مربكة رهيبة .. لم يبق في الفضاء من الأضواء الكاشفة إلا القليل ..
وكان الليل حالكاً لا تنيره إلا النيران المنطلقة من بنادقنا وبنادقهم .. وكان عدد منهم قد تمكن من اختراق
معاقلنا والوصول إلىداخل القرية , حيث استطاع المعقل وقيادة الأركان المحصنة الثبات بعناد مستميت
إلا أنهم تمكنوا من احتلال معقل الخيالة حيث قضي على التسعة والعشرين قوزاقياً الذين يحرسونه ..
ومن ثم استولى المهاجمون الدروز على خيول الكتيبة .. وعندما بدؤوا يفرون بها خارج القرية , كان
الفجر قد انبلج , وأصبحت الرؤية أفضل ,وبما أن الحصان أكبر من الفارس , فقد كان التسديد عليه
وقتله أيسر , وهكذا أخذنا نطلق النار على خيولنا ذاتها دون أن نفكر أنها خيولنا نحن .! نرمي الفرس
فيرتمي الفارس راجلاً فاقد الرجاء تطوقه نيران بنادقنا .. قليلون منهم استطاعوا النجاة تحت حماية
نيران إخوانهم التي كانت تنصب علينا من المنحدر ..
ومن ثم طلع النهار .. وظن بعضنا أن كل شيء قد قد انتهى .. ولكن ما حدث لم يكن إلا مناوشة .. مناورة
أولى من الدروز .. ونجحت إلى إلى حد ما .. فقد حرمتنا من خيولنا .. وحولتنا إلى جماعة من المشاة ..
خلال دقائق كانت الشمس تشرق . وراء نداء إلى السلاح ينطلق من جديد , فوثبنا جميعاً إلى متاريسنا ..
كان المشهد الذي يواجهنا الآن مشهداً غريباً مخيفاً رهيباً حقاً .. كما لو كان الواحد منا مخموراً بنشوة المعركة .
كان الدروز يتدفقون من المنحدر , وتحت أقدام التلة , وكأن الأرض نفسها هي التي تميد .. خمسة آلاف منهم
الخيالة , والمشاة .. حيث كان المشاة في المقدمة وخلفهم مباشرة الفرسان .. وهم على استعداد لقيادة الهجوم
خلال الثغرات التي تتركها فصائل المشاة .
كانوا جميعاً بملابس الحرب الخفيفة , بستر قصيرة وبلا عباءات , وكوفياتعم الملونة تتماوج في الهواء .
كانوا يلوحون ببنادقهم هازجين , مدمدمين , يتقدمون وفي طليعتهم ترف أربعة أعلام سوداء تحف بأميرهم .
عادت الرشاشات تهدر , وبنادقنا تدوي على الدروز و إلا أن تلك الكتلة البشرية كانت تتقدم صوبنا في
هجوم ضار مستميت وهم يتصارخون في عرين الحمى مرددين : يا الله .. يا الله .. يا الله ...
كانت موجة الهجوم تتكسر بين الحين والآخر , على بضعة أمتار من مناريسنا , وبين الحين والآخر كنت
أستطيع أن ألقي نظرة خاطفة على ذلك المشهد الغريب والرائع .. لقد استطاع الهجوم الأول أن يوصل
بعض المهاجمين إلى داخل القرية , حيث كانت إلى يميننا , ولكن دون أن يجتاحوا أي معقل من معاقلنا ,
حيث كان إلى جانبنا وبالقرب منا في ساحة البلدة مزار يتحكم موقعه بساحة البلدة وما يجاورها .. وفي هجوم
أشبه ما يكون بموجة تنساب فوق شاطء رملي , راح أميرهم يتوج ذلك المزار بأعلامه الأربع السوداء الكبيرة
ثم همز حصانه , ليستدير صوبنا , وفي حركة واحدة ركز حرسه ذوو الألبسة الملونة تلك الأعلام فوق المزار
بعزم وقوة كأنما , كأنما يقصدون أن تبقى كذلك إلى الأبد ..ومن ثم ترجل بهدوء .. في ظلال بيارقه المرفرفة
وأخذ يدير المعركة من هناك . وفجأة تغطت سطوح القرية الترابية بالقناصة المهاجمين , وراحوا يغمرون
معاقلنا بنيران لم لم نكن نستطيع الرد عليها , بسبب انشغالنا بالهجوم المنقض علينا , كانوا يتقدمون من ذلك
المنحدر , متدفقين , من حجر إلى حجر , ومن جدار إلى جدار , مثل شلال كبير , ومن ثم يندفعون نحونا في تلك
الأرض العراء , وكانوا كثيراً ما داهموا متاريسنا رغم غزارة نيران بنادقنا من كل صوب . وأن بعضهم
ــ والحقيقة تقال ــ ماتوا في ظل تلك المتاريس , وعندما انتهى كل شيء وجدنا جثة أولئك الشيوخ الجبليين
ويداه متشبثتان بجدار متراسنا , لقد كان يهاجم رشاشاتنا على ما يبدو وهو أعزل من كل سلاح , حيث كانت
أصابعه في الزاوية الداخلية من الحاجز , وقد تطاير فوقها رذاذٌ من من دماغ جمجمته المهشمة ..! وقد أدهشنا
أن نعد في تلك الجثة أكثر من ثلاثين رصاصة واضحة من طلقات بنادقنا ..!!
كان الموقف على ما يبدو ميؤوساً منه بالنسبة لنا , صحيح أننا استطعنا الصمود في معاقلنا , ولكننا لم نتمكن
من الحيلولة دون تسلل تلك الجماعات إلى داخل القرية في حين كان القناصة من من الدروز يمطرون معاقلنا
بوابل من رصاصهم .
كانت موجات الهجوم متلاحقة لا تتخللها إلا فترات خاطفة من الاستراحة تتجدد فيها حماسة المهاجمين ,
وانطلاقهم المستميت وهم يحدون ..
وهكذا كان حال معاقلنا الأخرى في مقاومتها , فكأنها قوارب صغيرة يتقاذفها خضم هائج .
لقد رايت هؤلاء الجبليين المتعصبين يتقدمون نحونا , وفي جسومهم عدد من رصاصاتنا , يتقدموا ليموتوا فوق
أسلاكنا الشائكة , حتى الجرحى كانوا يتابعون إطلاق النار , كانوا مستخفين بالموت , يطلقون النار بلا هوادة
من وراء صخرة أو حتى في الأرض العراء حتى آخرخلجة من خلجاتهم .
لقد مرت بي ساعات أتذكر أني أحسست في بعضها وكأني أعيش حلماً لا حقيقة .. فقد انقض نحو متراسي فجأة
حوالي عشرة من الدروز في هجوم مستميت فخيل إلي وكأن حركتي قد شلت , لأنهم كانوا جميعاً من أولئك من
الشيوخ , بلحى مشعشعة طويلة تتدلى إلى صدورهم , كانوا قصيري القامة غريبو المنظر يتحدون نيراننا المركزة
وكأنهم أرواح سحرية من عالم غير عالمنا , ظلوا يتقدموا حتى أسلاكنا الشائكة , ومن ثم وبحركة واحدة راحوا
يقفزون فوقها , ومن سقطوا جميعاً دفعة واحدة وهم يحملون عدداً من رصاصاتنا في أجسامهم منذ اللحظة التي
انطلقوا فيها من خلف ذلك الجدار ,, وإني أجزمأن العديد منهم قد ماتوا وقوفاً على أقدامهم في هذه الهجمة .
ازداد الموقف تأزماً , لقد كادت ذخيرتنا تنفذ , وها أن الدروز يستعدون لشن هجوم جديد , لكن أزيزاً في الفضاء
بدا يدوي , وعندما رفعنا عيوننا نحو السماء شاهدنا سبع طائرات أو ثمان تحلق فوقنا , وتسترع في قصف
الدروز , ومن ثم تنخفض أكثر فأكثر وتحصدهم برشاشاتها , وبدأت النجدات من الجيش تتوالى , حيث بدأ انسحاب المهاجمين الذين كانوا قد احتلوا قسماً من البلدة بعد قتال مرير ..
ــ من كتاب " دوتي " ــ وهو صف ضابط فرنسي ــ في وصفه لمعركة المسيفرة .